[نعمة الوظيفة والمنصب]
الوظيفة نعمة إذا استعنت بها على طاعة الله، والرتبة أو المنصب نعمة إذا سخرتها لدين الله.
أولاً: ما تعاليت بها على الناس ولا تكبرت، كما يصنع بها بعض الموظفين، أو رؤساء الأقسام، أو مدراء الإدارات؛ إذا دخل الإدارة فإنه من عند الباب يرفع (بشته) ويكون رأسه في السماء، وإذا مر على الناس أخذ ينظر فيهم ولا يسلم، فإذا قيل له: لماذا لا تسلم؟ قال: السلام ينقص من شخصيتي، ويضعف هيبتي أمام الناس، فأنا أريد أن أحتفظ بشخصية قوية من أجل أن يخاف الناس مني، ويسيرون العمل بشكل مضبوط، فتجده لا يسلم على الفراشين ولا الموظفين الصغار، وإذا دخل عليه أحد وهو جالس على الطاولة، رفع عينيه دون أن يرفع رأسه، كأنه يريد أن ينطحه، وإذا سلم عليه أحد لا يرد عليه السلام إلا همساً، وإذا أعطوه المعاملة، ما قبلها ولا مد يده لها، بل يقول: ضعها على الطاولة، ماذا تريد؟ الله أكبر! ما هذا الكبرياء والتغطرس بالوظيفة، فلو أن الوظيفة بقيت لغيرك ما وصلت إليك، والكرسي كما يقولون دوار.
فكرسي الحلاق كل يوم عليه شخص، فلم يبق لغيرك حتى يبقى لك، إذاً لماذا تنتفخ؟ لماذا تتكبر على عباد الله بهذه الوظيفة وهي عارية عندك؟! لماذا لم تستخدمها في طاعة الله؟ فإذا دخلت إدارتك فلا تأت عند الباب إلا وقد بدأت بالسلام: السلام عليكم السلام عليكم ورحمة الله صبحكم الله بالخير كيف حالكم؟ فإذا دخلت المكتب فسلم على الفراش، وإذا جاءك أي شخص مراجع له عمل عندك، فعليك أن تقطع عملك وأن ترفع رأسك إليه، فتقوم إذا حياك، لا تحيه وأنت جالس، بل حيه على الهيئة التي هو عليها، إن كان هو جالس فأنت جالس، وإن كان هو واقف فأنت واقف، كن مثله، وبعد ذلك تصافحه وتقول له: أي خدمات يا أخي، ماذا تريد؟ أي غرض، غرضك اعتبره منتهياً، ولو ما انتهى، وإذا لم ينته تقول له: الله يوفقك ويبارك فيك ويرزقك ويكثر من أمثالك.
هكذا تكون عابداً لله عز وجل بالوظيفة، وبعد ذلك إذا أذَّن المؤذِن للظهر وفي يدك أعظم معاملة، أو في أذنك أعظم مكالمة، أو كان عندك أهم اجتماع، فعندها تقفل القلم، وتضع السماعة، وتلغي الاجتماع وتقول: إلى الله، دعانا الله.
لكن بعض المدراء لا يعقد الاجتماعات إلا في وقت الصلاة، وهذا اجتماع يخيم عليه الشيطان؛ لأنه ضاعت من أجله فريضة الله عز وجل، فالوظيفة هذه نعمة إذا سخرتها في طاعة الله، فنصرت بها الضعيف، أو أقمت بها الحق، أو قدمت بها خدمة للمسلمين، فخدمتهم فيما يتعلق بعملك، فبششت لهم، وقضيت حوائجهم، وسعيت في مصلحتهم، عندها تكون هذه الوظيفة رحمة عليك في الدنيا وعزة وسعادة في الآخرة.
لكنّ هذه الوظيفة تكون فقط إلى الموت، وأما القبر فإنك لا تدخله بوظيفتك، هل سمعتم أن ضابطاً دخل القبر بنجومه على كتفيه؟ أو مديراً دخل ببشته أو طاولته؟ أو تاجراً دخل بشيكاته وصناديقه؟ لا.
{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:٩٤] أي: يخرج الغني والفقير، والقوي والضعيف، والأمير والمأمور، والملك والمملوك، كلهم يقوم في البدلة الرسمية الموحدة، وهي الكفن: الإزار والرداء واللفافة: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:٩٤] أي: ما جئتم بشيء، فقط جئتم بالعمل، والعمل من أين أخذتموه؟ من النعمة التي أرسلت لكم وهي رسول الله صلى الله عليه وسلم {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:١٦٤].
هذا هو الدين وهذه هي الهداية، فمن أخذ بها نفعته في الآخرة، ومن تركها ضل في الدنيا وشقي في الآخرة، يقول ابن عباس: [تكفل الله عز وجل لمن عمل بالقرآن ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة] {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:١٢٣] (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ) أي: من سار على هذه الهداية {فلا يضل ولا يشقى * وَمَنْ أَعْرَضَ} [طه:١٢٣ - ١٢٤] أي: الذي لا يريد الهداية، والطريق الواضحة أمامه، فأعلامها واضحة، وأماراتها واضحة، كالمحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يحيد ولا يزيغ عنها إلا هالك، فهذا قد أعرض أو رفض.
قال الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} [طه:١٢٤] هذا الذي أعرض لابد أن أعطيه الفطور في الدنيا والعشاء في النار، ما هو الفطور؟ قال تعالى: {إِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:١٢٤] هذا الفطور وهو الوجبة العاجلة، ثم ماذا قال جل ذكره: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:١٢٤] وهذا هو العشاء.
تصوروا أن شخصاً يُحشر أعمى، ويؤمر بالسير على الصراط وهو أعمى، فكيف يمشي على الصراط؟ {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً} [طه:١٢٥] نعم.
فالجزاء من جنس العمل: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا} [طه:١٢٦] أي: هناك في الدنيا: {فَنَسِيتَهَا} [طه:١٢٦] تعاميت عنها تجاهلتها فكل شيء له في ميزانك وفي برنامجك مكان إلا القرآن والدين والهداية لا تريدها، فللمباريات وللتمشيات مكان، وللبلوت والكيرم وللدوام وللنوم وللطعام مكان، ولكن للعلم للقرآن للصلاة لهداية الله لا.
عندما تأتي هذه الأشياء يصبح البرنامج مزحوماً ولا فيه فراغ، فتجده يقول: والله أنا مشغول، حسناً! تعال ندوة، قال: أنا مشغول، ماذا عندك؟ ليس عنده شيء، أشغل نفسه بما لا يشغله الله به، أشغل نفسه بما يضره في الدنيا والآخرة والعياذ بالله، قال عز وجل: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:١٢٦].