[الأدلة الشرعية في إثبات عذاب القبر ونعيمه]
أما الأدلة الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على ثبوت عذاب القبر ونعيمه فقد ترجم البخاري في كتابه: الصحيح في كتاب الجنائز لعذاب القبر فقال: باب ما جاء في عذاب القبر، وساق في الترجمة قبل الحديث قول الله عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام:٩٣] وقال عز وجل: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة:١٠١] وقال: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:٤٥ - ٤٦].
فالآية الأولى ساقها الإمام البخاري مستشهداً بها في تعذيب الملائكة للكفار في حال الاحتضار، والآية الثانية استدل بها على أن هناك عذابين يصيبان المنافقين قبل عذاب الآخرة: العذاب الأول ما يصيبهم في الدنيا على أيدي المؤمنين، والثاني ما يصيبهم في القبر على أيدي ملائكة عذاب القبر، قال الحسن البصري في قوله عز وجل: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة:١٠١] قال: [عذاب الدنيا وعذاب القبر].
{ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة:١٠١] فـ (ثم) هنا تفيد الترتيب مع التراخي، كأن العذاب المرتين هذا قبل عذاب يوم القيامة، مرتان في الدنيا يكون العذاب: وهو ما ينال الكافر والمنافق والعاصي والظالم والفاجر من ظلمة في قلبه وقسوة، ومن ضيق وحرج، ومن اضطراب وقلق، ومن تبرم -والعياذ بالله- وظلام في عقله، هذا والله إنه أعظم عذاب، عذاب لروحه عذاب لنفسه عذاب لقلبه، وبالتالي يندرج هذا العذاب على كل جوارحه، ثم العذاب الثاني ما يناله في القبر، وهذا من عظيم استشهاد العلماء رحمهم الله واستنتاجهم لأحكام القرآن: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة:١٠١] قال: الأولى في الدنيا والثانية في القبر، وقال الطبري في كتابه تفسير ابن جرير التفسير الذي كل الأئمة عالة على ابن جرير فيه، يقول: والأغلب أن إحدى المرتين هي عذاب القبر والأخرى تحتمل أحد ما تقدم إما من الجوع أو من السبي أو من القتل أو من الإذلال أو من القلق أو من الحيرة التي تحصل للإنسان البعيد عن الله في هذه الدنيا.
أما الآية الثالثة وهي قوله عز وجل: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:٤٦] فهي حجة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار لـ أهل السنة على إثبات عذاب القبر، فإن الله تبارك وتعالى قرر أن آل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشياً، وهذا قبل يوم القيامة، ثم قال: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:٤٦] والعياذ بالله.
قال القرطبي في كتابه أحكام القرآن: يقول: الجمهور على أن هذا العرض يكون قبل يوم القيامة يعني في البرزخ وهو حجة في تثبيت وتدليل الناس على عذاب القبر.
ومن الإشارات القرآنية الدالة على ثبوت عذاب القبر ونعيمه قوله تبارك وتعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:٢٧] وفي حديث البراء بن عازب الذي أخرجه الإمام أحمد في المسند وأخرجه الإمام أبو داود في السنن وهو صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقعد المؤمن في قبره أتي ثم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فذلك قوله تعالى: ((يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)) [إبراهيم:٢٧]) نزلت هذه في عذاب القبر.
وقد روت لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، والحديث عنها عظيم جداً أم المؤمنين حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الصديقة بنت الصديق أبي بكر الصديق رضي الله عنه، اسمه أبو بكر بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عويمر، أول من أسلم على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثاني اثنين في الغار، وخليفته صلوات الله وسلامه عليه، وضجيعه في القبر في غرفة عائشة رضي الله عنها، وهي زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأفقه نساء الأمة على الإطلاق، وكانت فقيهة عالمة بكل أمور الأمة في الدين، في الفقه وفي التفسير وفي الحديث وفي اللغة وفي الشعر وفي الطب حتى الطب كانت طبيبة، وسألها عروة بن الزبير ابن أختها فقال: [يا أماه! من أين تعلمت الطب؟ فقالت: كان الناس يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه فأعي ذلك] عندها علم عظيم رضي الله عنها وأرضاها، أمها أم رومان بنت عامر رضي الله عنها وأرضاها، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة بعد وفاة خديجة؛ لأنه ما تزوج على خديجة حتى ماتت، وأيضاً دخل بها في المدينة بعد غزوة بدر، تزوج بها وعمرها ست، ودخل بها وعمرها تسع سنوات، روت علماً كثيراً مباركاً، أكثر من ألفين ومائتين وعشرة أحاديث، لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بكراً غيرها، ولم يحب من أزواجه مثلها، وكانت تفخر بذلك رضي الله عنها.
يروي البخاري ومسلم في الصحيحين قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أريتك في المنام ثلاث ليالٍ -قبل أن يتزوجها ورؤيا الأنبياء وحي- جاء بك الملك -أي جبريل- في قطعة من حرير فيقول: هذه امرأتك فأكشف عن وجهك فإذا هي أنت، فأقول: إن يك هذا خيراً يمضيه الله) وفعلاً تزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان يُظهر حبها للناس كلهم، ففي صحيح البخاري وصحيح مسلم أيضاً عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله! أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها) فهي حب رسول الله، وأبوها حب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان الصحابة يعرفون ذلك فكانوا يتحرون بهداياهم يومها، فإذا كان عندها في اليوم الذي هو فيه يرسلوا الهدايا؛ لأنهم يعلمون أنه يحب أن يهدى إليه في بيتها رضي الله عنها وأرضاها، يروي البخاري ومسلم أيضاً أن عائشة قالت: (كان الناس يتحرون بهداياهم يومي وليلتي فاجتمعن صواحبي -يعني: أمهات المؤمنين- إلى أم سلمة رضي الله عنها فقلن: إن الناس يتحرون هداياهم في يوم عائشة وإنا لنريد من الخير مثل ما تريد، فقولي لرسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر الناس أن يهدوا إليه في أي بيت من بيوته) لا ينتظرون في ليلة عائشة ويأتون بالهدية، انظروا كيف النساء بطبيعتهن رغم جلالة قدرهن وعلو منزلتهن وأنهن أمهات المؤمنين، لكنهن بشر يخضعن لما يخضع له البشر ويحببن ما يحبه البشر من هدية أو كرامة.
(فجاءت أم سلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فسكت ولم يرد عليها -أول مرة- ثم جاءت ثانية فذكرت ذلك فلم يرد عليها، ثم جاءت ثالثة فذكرت ذلك فقال لها: يا أم سلمة! لا تؤذيني في عائشة فإنه -والله- ما نزل علي الوحي في لحاف امرأة منكن غيرها) صلوات الله وسلامه عليه ورضي الله عنها وأرضاها.
يقول: لا تؤذيني فيها، لا تبلغن منزلتها، ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة أي: مع امرأة منكن غير عائشة رضي الله عنها، وهذا يبين عظم مكانتها ومنزلتها ويكفيها أنها الطاهرة المطهرة المبرأة من فوق سبع سماوات، نزلت براءتها من الله قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، وسمى الله الحديث الذي دار حولها وحول عرضها سماه (إفكاً) والإفك: هو أكذب شيء في الكلام وقال: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:١٥] وحذر الناس من هذا الإفك فقال: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:١٥ - ١٦] هذا كذب عظيم لا يمكن أن يكون، لكن دار هذا الكلام وأشاعه المنافقون الذين يصطادون في الماء العكر، ويحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا فنزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ} [النور:١١] إلى آخر الآيات، يكفيها هذا شرفاً وفضلاً رضي الله عنها.
وورد في صحيح البخاري وصحيح مسلم حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون، وخديجة ينت خويلد وقاطمة ينت محمد وفضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) الثريد: هو الخبز المقطع مع اللحم المقطع، هذا أفضل أكلة كانت في زمنهم! من يأكل لحماً ويأكل خبزاً معاً؟ في ذلك الزمن ما كان يأكل هذا إلا الم