[كثرة الثقافات والأفكار الغربية الهدامة]
السبب الثالث: أننا نعيش في زمن زالت فيه الحواجز بين الأمم وبين الشعوب واختلطت الثقافات، وأصبح العالم مكشوفاً كأنه في غرفة أو في شاشة، يستطيع الإنسان وهو في غرفته وعلى سرير نومه أن يجول ويصول حول العالم، إما بمؤشر راديو، أو بقناة تلفاز، أو بأزرار وأرقام هاتف، أو بقراءة مجلة، أو باستعراض جريدة وأخبار، المهم أن الثقافات والأفكار التي تدور والتي تنتشر في العالم كله ما أصبحت حكراً على أصحابها، بل متداولة في العالم كله، تجد الإنسان يستمع إلى إذاعة القرآن، فيسمع برنامجاً إسلامياً يثبِّت العقيدة ويقوي الدين في قلبه، وبإمكانه أن يغيره فيجد إذاعة كافرة، إما إذاعة موسكو، أو لندن، أو صوت أمريكا تدعو إلى الكفر والضلال؛ فأصبح الإنسان الآن بين مؤثرات متعددة متناقضة ومتضاربة ومتصارعة، مما يجعل مهمة الثبات عنده صعبة جداً.
كان الناس في الماضي الأثر فقط للأم والأب، وللإمام في المسجد، والمدرس في المدرسة، والزميل في الشارع، بل بعضهم يحيا ويموت وهو لا يعرف القرية المجاورة له، يخبرني كثير من كبار السن يقولون: والله إن الأوائل لا يعرفون خميس مشيط، يعيشون في أبها وفي قرى الحجاز أو الشعوف ويموتون وهم ما انتقلوا إلى خميس مشيط أو إلى أبها! لماذا؟ ليست هناك حاجة، لا وظيفة يتبعها، ولا سوق يذهب إليه، وإنما مع غنمه وأبقاره وفلاحته وأولاده بمزرعته في الليل والنهار حتى يموت.
لكن الآن أصبحت الحياة كلها مُتَغَيِّرٌ وجهها، وأصبح الإنسان ترد عليه كل أفكار الأرض، مما يجعل الثبات على دين الله عنده من أصعب المهمات وأشق المشاق، وهذا تحقيقٌ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان -أي: في آخر الزمان- يصبح الرجل من أمتي مؤمناً، ويمسي كافراً، ويصبح كافراً، ويمسي مؤمناً) أي: يسهل عملية تغيير العقائد؛ لأن العقائد ليست ملابس تغيرها، وليست بدلة، ولا زِي، وإنما العقيدة شيء تعقِّد القلب عليه، ولا يمكن أن تبدله، ولكن مع المؤثرات القوية والخلخلة الإيمانية التي تحصل في قلوب الناس يحصل التساهل؛ حتى ينقلب المسلم كافراً، والكافر مسلماً بجلسة واحدة.
ولذا كثير من دعاة الضلال يجلس مع بعض المؤمنين جلسة واحدة، يهزه هزاً، وينزل وهو يقول: والله غسلت مُخَّه، يعني: غسل مُخَّه من الإيمان.
تراه في اليوم الثاني لا يصلي رغم أنه كان في الصف الأول! والثاني ينطلق إلى الشهوات! وفي اليوم التالي يعُبُّ من النزوات، لماذا؟! غَسَلَ مُخُّه بكلمة أو بفكرة أو بنظرية أو بشبهة أو بشهوة يوردها على قلبه، فيتخلخل إيمانه ويسقط والعياذ بالله.
الثبات على دين الله نعمة يَمُنُّ الله عز وجل بها على من يشاء من عباده، امتَنَّ الله بها على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} [الإسراء:٧٤ - ٧٥].
لمن يوجه هذا الكلام؟ هذا الكلام يوجه لسيد البشرية، والذي أرسله ليثبت الأمة، يقول الله له: لولا أنك مُثَبَّتٌ من الله لقد كِدْتَ تركن -شارفت على الركون والميل إليهم- شيئاً قليلاً، وإذا فعلت الشيء هذا من الركون والميل إليهم فالعذاب عليك، ليس العذاب على غيرك، {إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} [الإسراء:٧٥].
وذكر الله عز وجل في كتابه العزيز، أنه يثبت طائفة من الناس؛ لأن المثبِّت هو الله -لا تظنن أنك أنت الذي تُثَبِّتُ نفسك، فإنه المثبت على الدين- ولأن الهادي هو الله، وهو الهادي إلى سواء السبيل، وإذا هدى أيضاً يثبت أو يضل، لكن له سنن في الكون تبارك وتعالى، أنه يثبت طائفة استحقوا التثبيت بمبادرات من عندهم، ويضل طائفة استحقوا الإضلال بمبادرات من عند أنفسهم؛ لأن {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:٤٠].