للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مواضع التماس الإيمان في الدنيا]

أتريد أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار؟! تريد أن يكون معك نور في القبر يضيء لك، وهي الصلاة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الصلاة نور) فأنت إذا أردت هذا النور اشغل نفسك به، راجع محطات النور هذه المساجد هي محطات النور الربانية، اجعل لك علاقة بها، بحيث أنك لا تغادرها في اليوم خمس مرات، في الفجر والظهر والعصر وأنت الأول، تكتسب الأنوار من محطة النور، ثم اجعل لك ورداً مع القرآن الكريم، اجعل لك ورداً مع السنة المطهرة، اجعل لك موعداً مع العلماء، الآن جلستكم في هذا المجلس هي نور لكم، ليس مني هذا النور؛ ولكنه من الله؛ لأنكم ما جلستم تريدون مالاً، ولا ثَمَّ عشاء بعد الجلسة، وإنما جلستم من أجل الله، والله ما أتى بكم إلا الله تبارك وتعالى، ولا نزكي على الله أحداً، هذه الجلسة نور، وستشعرون وأنتم تخرجون من المجلس كيف هي قلوبكم؟! هل هي مثلما دخلت، أم أنها ازدادت نوراً، إن شاء الله تزداد نوراً.

عندما تجلس في محطات النور، وتجلس عند العلماء والدعاة يزيدك الله تبارك وتعالى نوراً، إي نعم، {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} [الحديد:١٣] الذي من جهة أهل الإيمان -اللهم ارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين- وما أفقرنا أيها الإخوان! وما أحوجنا إلى رحمة الله في الدنيا والآخرة -اللهم ارحمنا برحمتك في الدنيا والآخرة.

الملائكة تدعوا لكم يا إخواني! وأنتم في هذا المجلس، ملائكة الرحمن، وحملة العرش، يقول الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:٧] أي: لكم {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ} [غافر:٧] لأهل صفتين: {لِلَّذِينَ تَابُوا} [غافر:٧] ثم ماذا؟ {وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر:٧].

أول شيء: التوبة، بعض الناس يتبع سبيل الله وهو على المعاصي، ما نَصَح؛ لأنه يبني ويهدم، تراه يصلي ويذهب ليغني، يصلي ويذهب ليطارد النساء في الشارع، يصلي ويذهب ليدخن عند باب المسجد هذا ما تاب.

أول شيء: (التَّخْلِية) كما يسميها العلماء، إذا كان عندك كوب مملوء بالتراب، وأردت أن تشرب في هذا الكوب لبناً أو ماءً فماذا تعمل؟ وماذا ينبغي لك أن تفعله؟! العقل يقول لك: صُب التراب من الكوب، ونظِّفه، ثم ضع فيه ماءً أو حليباً واشرب؛ لكن لو قال لك واحد: اغسل كوبك من التراب؛ لكي نصب لك فيه حليباً أو ماءً، فقلتَ: لا، ما يهمك، يصلح، ضع الحليب على التراب، ماذا يحصل؟! هل تشرب بعد ذلك؟! هل تنتفع بالحليب؟! لا، رغم أنه حليب؛ لكن وضعته على تراب، كذلك بعض الناس يضع طاعةً، وصياماً، وصلاةً؛ لكن يضعها على تراب في قلبه، قلبه مملوء بالزيغ والضلال، نظف قلبك، ولهذا الملائكة تقول: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} [غافر:٧] أي: أقلعوا عن الذنوب {وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} [غافر:٧ - ٩] هذه دعوة من الملائكة، اللهم استجبها يا رب! فينا وفي إخواننا المسلمين، تدعوا لك الملائكة أن الله يقيك السيئات، أي: يحميك من الذنوب، ثم قالت: {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} [غافر:٩] أنت تعرف الآن هل أنت ممن رحمك الله، أم لا؟ إذا رأيت نفسك وعرضتها على المعاصي والسيئات، فإن كنت صرفت نفسك، أعانك الله، فقد رحمك الله، وإن كنت وقعت فمسكين، ابحث عن رحمة الله، وهذه في يديك، وأنت تمر على مؤشر المذياع على أغنية سيئة، إذا أبعدتها فقد رحمك، وقاك السيئة {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:٩].

هذا هو الفوز، هذه هي العزة، هذا هو الانتصار أن تنتصر على نفسك وشهوتك، وإن من ينتصر على نفسه سيكون حرياً بالنصر في كل ميدان؛ لكن المهزوم داخل نفسه كيف ينتصر على غيره؟! ولهذا تجد بعض الناس مهزوماً أمام سيجارة، أو منظر امرأة، يقف في الشوارع والطرقات، ويخرج إلى الأسواق ويتلصص بعين سقيمة مريضة إلى محارم الله، تراه مثل الكلب يُشَمْشِم، هذا مهزوم، لا يصلح؛ لكن ذاك المنتصر إذا رأى امرأة يقول: صحيحٌ أنه منظرٌ جميل، لكن طاعة الله أحلى، عذاب الله أقوى، أنا أقارن بين لذة المعصية وبين عقوبتها فأجد أن لذتها بسيطة، وعقوبتها طويلة عظيمة، إذا كان (مَن ملأ عينيه من الحرام ملأهما الله مِن جمر جهنم) و (من استمع إلى الغناء صبَّ الله في أذنيه يوم القيامة الآنك -أي: الرصاص المذاب-) إذاً كيف تعمل؟! صعب جداً عليك أيها الإنسان.

إذاً: {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} [غافر:٩] اللهم قنا السيئات يا رب العالمين.

هكذا أيها الإخوة: السورة من أولها إلى آخرها تبدأ وتطوف وتحدد هذه المعاني العظيمة: فأولها: يدلك على الخالق: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام:١] وهو الرازق، {يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام:١٤] رزق العباد كلهم عليه، نفقة العباد كلهم عليه، ثم إنه مالِك؛ صاحب قدرة، الناس كلهم في قبضته، مَن الذي يستطيع أن يخرج عن قبضة الله؟! مَن الذي يستطيع أن يمتنع عن الله؟! والله لا غني يمتنع بغناه، ولا قوي يمتنع بقوته، ولا ملك يمتنع بمُلكه، ولا صاحب مال يمتنع بماله، وإنما الناس كلهم ضعفاء أمام قوته، فهو المالك المتصرف في الكون ومن فيه، بيده مقاليد الليل والنهار، بيده ملكوت السماوات والأرض، {يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون:٨٨]، {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:٦] وهو العليم بالغيوب والأسرار، {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:٥٩] لا إله إلا الله! ولو كانت ورقة من شجرة في صحراء تنزل {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} [الأنعام:٥٩] لا إله إلا الله! هل يُعْصى هذا الرب؟! أين أنت يا إنسان؟! إذا كانت الملائكة لا تعصي الله لأنها عرفت الله، عرفته المعرفة الحقيقية، يقول عليه الصلاة والسلام: (أطَّت السماء -أي: احدودبت وانحنت- وحُقَّ لها أن تئط، فما فيها موضع قدم إلا وملك راكع أو ساجد، يسبحون الليل والنهار) مِن الملائكة مَن هو راكع من يوم أن خلقه الله إلى يوم القيامة، وإذا بُعِثَ ونُفِخ في الصور بُعِث وهو يسبح ويقول: سبحانك! ما عبدتك حق عبادتك.

{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:٢٠]، يقول صلى الله عليه وسلم، وهو يتحدث عن ملك من حملة العرش، والحديث ذكره السيوطي في الجامع الصغير وصححه الألباني، يقول: (أُذِنَ لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقة مسيرة سبعمائة عام) هذا رقبة الملك وما بين شحمة الأذن إلى العاتق مسيرة سبعمائة سنة، إذاً: كيف الباقي؟ لا يعلمه إلا الله.

وجاء في الحديث الصحيح عن وصف جبريل أنه: (جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد فَرَد اثنين من أجنحته، فسَدَّ ما بين الخافقين) ما بين المشرق والمغرب، اثنان فقط، بقي بعدهما خمسمائة وثمانية وتسعون جناحاً، له ستمائة جناح، اثنان سَدَّا ما بين المشرق والمغرب.