[حالات ضبط النفس وإهمالها]
إن ضبط مسارات النفس -أيها الأخ في الله- إذا حاسبتها فإنها تطيب، وإذا أهملتها فإنها تخبث.
ففي الحالة الأولى: يحيا الإنسان في جو من الخير، فينحسر دونه، وتنحسر وتمتنع موجات الإثم والعصيان، وهو ما أشار الله إليه عز وجل بقوله في القرآن عن الشيطان: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل:٩٩] فليس للشيطان سلطان عليك.
لماذا؟! لأنك حددتَ اتجاهاتك، ضبطت موجات الاستقبال عندك، قال: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل:٩٩] فعلى مَن سلطانُه؟! قال: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ} [النحل:١٠٠] مَنْ هُمْ؟! {يَتَوَلَّوْنَهُ} [النحل:١٠٠] ضبطوا الموجات على استقبال الشيطان؛ الأغاني تضرب في أذن أحدهم كل يوم، ويريد من الله أن يهديه، والنظر المحرم كذلك، كل يوم يذهب إلى الأسواق والمعارض فينظر بعينيه في محارم المسلمين كالكلب، ويريد أن تأتيه الهداية، وبطنه مملوء بالربا والحرام والرشوة، ولسانه لا يكف عن الكلام طوال اليوم، في اللعن والسب والشتم والغيبة والنميمة! قال عز وجل: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} [النحل:١٠٠] تولوا الشيطان، {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:١٠٠].
وفي الحالة الثانية: الذي لا يستجيب لدواعي الإيمان ويستجيب لدواعي الشيطان ماذا يحصل له؟! تؤزُّه الشياطين.
لماذا؟ لأنه أصبح مَركباً لها، يقول الله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} [مريم:٨٣] ماذا تصنع بهم؟! {تَؤُزُّهُمْ أَزّاً * فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:٨٣ - ٨٤] هم يغفلون والله لا يغفل، هم لا يحسبون والله يحسب: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ} [المجادلة:٦] وماذا؟! {وَنَسُوهُ} [المجادلة:٦]، إذا نسيتَ فإن الله لم ينس، وإذا غفلت فإن الله لم يغفل، وإذا لم تحسب فإن الله يحسب عليك، أنت لست مغفولاً عنك، فإذا غفلتَ سلط الله عليك الشياطين، وأرسلها: {تَؤُزُّهُمْ} [مريم:٨٣] قال العلماء: تؤزُّهم: تدفعهم إلى المعاصي، تدعوهم إلى المعاصي، تصدهم عن الهداية.
لماذا؟! لأنهم أصبحوا حميراً للشيطان، أصبحوا مَراكب لإبليس.
والعياذ بالله! وقد طلب الله من عباده أن يتحصَّنوا من الداخل ضد كيد الشيطان باليقظة أولاً، وصدق التوجه، والاستعاذة، واللجوء إلى الله؛ للاحتماء بقوته، والاستجارة بعزته؛ ولكن لا بد مع الاستعاذة من عمل، فإذا قال الطالب في آخر الامتحان: أعوذ بالله من السقوط في الامتحان، فلا يغنيه هذا إلا إذا أقبل على دروسه، فيقبل على الدروس ويذاكر ويقول: أعوذ بالله من السقوط، أما أن ينام ويلعب طوال العام ويقول: أعوذ بالله من السقوط فإنه يسقط غصباً عنه.
وإذا قال التاجر: أعوذ بالله من الخسارة، فلا يُقْبَل منه ذلك حتى يعرف رأس ماله، وأرباحه، وخسائره، وإلا خسر.
فحين تستقر الحقائق الإيمانية في قلب المؤمن، ييئس الشيطان ويندحر، ولا يتمكن منك أيها المسلم؛ لأنك قوي.
انظر يا أخي إلى الرياح العاصفة، إذا هبت على الصحراء أثارت غبارها، وإذا مرت على المياه حركت لُجَجها؛ ولكن هذه الرياح العاتية، حينما تتناوش مع قمم الجبال الشمّاء، لا تنال منها منالاً، الريح العاصفة إذا جاءت في الصحراء تُحْدِث زوبعة، وتأخذ الرمال وترفعها إلى السماء، وإذا جاءت على البحر تُحَرِّك الأمواج؛ ولكن إذا جاءت إلى الجبال ماذا تفعل بها؟! هل تحرك الجبال؟! أبداً.
الريح تعرض والجبل ثابت.
كذلك أنت يوم أن تكون جبلاً من جبال الإيمان، إذا مرت بك رياح المعاصي، وعواصف الشهوات؛ لا تكن سهلاً فتعصف بك، ولا تكن ماءً فتحركك، فكن جبلاً من جبال الإيمان والعقيدة، تمر بك العواصف فتتبخر وأنت ثابت، لا تنال منك منالاً لأن رأسك في السماء، وقمتك سامقة:
سأعيش رغم الداءِ والأعداءِ كالنسر فوق الهمة القعساءِ
ويقول الناظم:
ومن يتهيَّب صعود الجبالِ يعش أبد الدهر بين الحُفَرْ
الذي يتهيَّب صعود جبال الإيمان يعيش في حُفَر ومستنقعات المعاصي، في حفرة الغناء، والزنا، والربا، والمنكرات، ومن عاش في الحُفَر سُلِّطت عليه الأقذار والأوبئة.
(فالبيارة) تحفر في الوادي ليس في رأس الجبل، هل رأيت شخصاً يحفر (بيارته) في رأس الجبل؟! وكذلك الشيطان لا يحفر (بياراته) في قمم جبال أهل الإيمان، وإنما يحفرها في صدور أهل الفسق والنفاق والعياذ بالله.
فالإنسان حينما يكون أمره فرطاً، وحياته غفلة، وأيامه لاهية، فإن الشيطان يستولي عليه، ويتحكم فيه، أما يوم أن يحزم أمره، وينظم شئونه، ويحاسب نفسه، فهيهات أن تنال منه الشياطين شيئاً.