[الحرص على الرفق والابتعاد عن الغلظة]
المعْلَم الرابع: أن تكون العبارة التي يتكلم بها شيقة، لينة، هينة، محببة إلى النفس، وأن يبتعد عن العبارة السيئة والقول الجاف، والكلمة الغليظة؛ لأن الداعية يتعامل مع قلوب الناس، والقلوب حساسة تأتي بها كلمة، وتطردها كلمة أخرى، ولهذا يقول الله عز وجل وهو يأمر موسى وهارون بالذهاب إلى فرعون لإبلاغ الدعوة، والله يعلم أن الكلمة اللينة أو القاسية لا تفيد فرعون، فهو كافر كافر، لكنه يبين منهج الدعوة فيقول: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:٤٤].
وهكذا كان منهج النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، يقول الله عز وجل: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:١٥٩] ويقول: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:١٥٩] وهذا واضح مكشوف في جميع مسائل الدعوة التي سلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما) ولما بعث رسوليه إلى اليمن قال لهما في الرسالة: (بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا) إذا أردت أن تتكلم فابحث عن أفضل عبارة وأفضل كلمة؛ لأنها مفتاح للقلب، فإذا جئت بمفتاح مناسب لين دخلت القلب، وإذا جئت تدق الإنسان في قلبه بكلمة قاسية أعرض عنك، فلا يسمع منك ولا يذكر كلامك لأنك أوجعت قلبه بكلمة قاسية، والله يقول: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:٤٤] أنت لا تملك الهداية أصلاً، الهداية بيد الله، أنت تملك الوسيلة فقط والسبب الذي ينقل الناس إلى الدعوة وإلى الهداية، فيجب أن تكون الوسيلة طيبة من أجل أن تتيح الفرصة لهذا الإنسان فتنقله إلى الحياة الجادة، وتنقله من الضلال إلى الهدى، وتنقله من المعصية إلى الطاعة، وتنقله من الكفر إلى الإيمان، وتنقله من الشرك إلى التوحيد، لا بالضرب، ولا بالقوة، بل بالكلمة الطيبة، كالسلام.
يا أخي! ابحث عن أفضل عبارة، الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يكتب للكفار، يقول: (من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم) ولما جاءه الرجل من صناديد قريش يريد أن يفاوضه قال له: يا محمد! إنك جئت قومك بما لم يأت به أحد قومه، سفهت الأحلام، وسببت الآباء والآلهة، إن كان الذي يأتيك من الجن عالجناك، وإن كنت تريد مالاً جمعنا لك حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك، وإن كنت تريد زوجة زوجناك، ماذا تريد؟ فماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ قال له: (اسمع مني يا أبا الوليد) وكناه، والكنى محببة عند العرب، أنا عندما أناديك باسمك وأقول: يا فلان! تسمع، لكن إذا قلت: يا أبا فلان! تنبسط؛ لأنك تحب أن تدعى بولدك، الرسول صلى الله عليه وسلم كنى هذا الكافر، من أجل أن يمرر الكلام إليه، دعاه بالكنية، قال: (اسمع مني يا أبا الوليد! ثم قرأ عليه فواتح سورة فصلت).
ولما وصل إلى قول الله عز وجل: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:١٣] فقام الرجل ووضع يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أسألك بالله والرحم ثم خرج، ولما رجع تغير وقال: "والله إني لأعلمكم بالشعر وأعلمكم بالنثر، والله ما هو بالشعر ولا بالنثر، والله إن أعلاه لمورق، وإن أسفله لمغدق، وإن عليه لحلاوة، وإن له لطلاوة، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه" أي: كلام الله.
فقالوا كلهم وهم الجالسون في السقيفة ينتظرون خبر المفاوضات، قالوا: صبأت مجرد مرة ذهبت إليه فغسل مخك ودين آبائك وأجدادك، والله لا تخرج حتى تقول فيه قولاً، ماذا يقول الناس عندما يسمعون كلامك هذا؟ معناه: لن يبقى أحد إلا وسيدخل في دين محمد، وبدءوا يضغطون عليه حتى قال: دعوني أفكر، ودخل بيته، وجلس يفكر ويقدر، ويقدم ويؤخر، ثم رجع إليهم وقال: نعم عرفت! قالوا: ما هو؟ قال: هذا سحر.
قال الله عز وجل فيه: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:١١ - ٢٥].
قال الله له: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:٢٦] وسقر هي النار، طبقة من طباق جهنم {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} [المدثر:٢٧] للتهويل والتعظيم {لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} [المدثر:٢٨] {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَر * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:٢٩ - ٣٠] تسعة عشر من الملائكة، ولما نزلت الآية وبلغها النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة، وبلغها الصحابة للناس، سمع بها أبو جهل وسمع بها الوليد بن المغيرة، وخاف فقال له أبو جهل: كم توعدك محمد؟ قال: تسعة عشر، قال: عليّ ثمانية عشر وأنت عليك واحد فقط، قال: ثمانية عشر أنا أضعهم فوق رأسي أنا أكفيكهم.
ولما أراد أن يسجد النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، منعه أبو جهل، قال: والله لئن سجدت مرة ثانية لأرضخن رأسك بهذا الحجر، ففرحت قريش، قالوا: دعوا أبا جهل يرضخ رأسه وتنتقم بني هاشم من بني مخزوم، وننتهي منه، وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم رغم التهديد؛ لأن الله قال: {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ} [العلق:١٩] وبعد ذلك جاء وما سجد مكانه، قرب قليلاً عند الكعبة {وَاقْتَرِبْ} [العلق:١٩] ولما جاء وسجد، قام كفار قريش وجاءوا إلى أبي جهل وقالوا: الرجل ليس عنده دين يتحداك، جاء يصلي، ويا ليت أنه صلى في مكانه الأول، بل يتحداك ويعاندك، ويصلي بجانب الكعبة، قال: وقد فعل؟ قالوا: نعم.
فأتى وهو يحمل الحجر التي ما تحملها الرجال، وجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، ولو رضخه بالحجر لقتله، وقبل أن يقرب منه وكان بينه وبينه مسافة، كع كما يكع الحمار، ووقعت الحجر على رجليه وكادت أن تكسر رجليه، ثم شرد، فضحك الناس، وجاءوا إليه فقالوا: مالك؟ قال: فحل اعترضني -الفحل هو: البعير- فاغراً فاه أنيابه السفلى تحت قدميه والأخرى فوق رأسه، يقول: والله لو تقدمت لابتلعني، يقول: فكعكعت ورجعت وراء، ولما أخبروا النبي قال: (ذاك جبريل، ولو أنه تقدم خطوة واحدة لابتلعه) قال الله عز وجل: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} [العلق:١٧] يقول: فليدع جماعته الذين سوف يسدون على الثمانية عشر: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق:١٨] إذا دعا ناديه وجماعته دعونا الزبانية، ماذا يفعل أبو جهل مع هؤلاء؟ فأنت -يا أخي- عليك أن تكون كلمتك طيبة إلى أبعد درجات الطيب، لتكسب ذلك الرجل، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمته طيبة مع كافر، فكيف لا تكون كلمتنا طيبة مع المسلمين؟! بعض الشباب -هداهم الله- محبون للخير، وعندهم إيمان وغيرة، ولكن ينقصهم العلم والخبرة، فإذا رأى رجلاً صاحب معصية عبس في وجهه، وقال: أبغضه في الله! يا أخي! تبغضه في الله ابتداءً، البغض في الله ويكون آخر شيء، أول شيء أحبه في الله، ابتسم له في الله، قدره في الله، أكرمه في الله، من أجل أن يحبك ويحب الدين الذي تمثله، ويحب الدعوة التي تمثلها، وبعد ذلك تقول: جزاك الله خيراً.
فيقول: والله أخلاقك طيبة.
فتقول: وأنت أطيب.
فيقول: والله أنا أحببت الدين؛ لأني أحببتك أنت.
لكن عندما تبغضه من أول ما تراه ولا تسلم عليه، وبعد ذلك عندما تأتي تدعوه يقول: اذهب حسن أخلاقك أولاً؛ لأن أخلاقك سيئة، بعض الناس يجد اثنين معاً أحدهما حليق والآخر معه لحية، فيسلم على ذاك بوجه، ويسلم على ذلك بوجه آخر، وبطرف إصبعه، فيقول هذا الرجل: لماذا يعاملني هكذا؟ فهذا لا ينبغي يا أخي! لأنك حكمت على الظاهر، يمكن الذي تراه حليقاً باطنه أحسن من ألف رجل معه لحية، الله ينظر إلى الناس نظرة متكاملة، لا ينظر للشكل فقط، والشكل ليس كل شيء أيها الإخوة.
فالشكل شيء في الدين لا نغفله، شكل الإنسان في الدين شيء مطلوب أن يكون ذا لحية ويكون ثوبه قصيراً، ويكون عنده تمسك بالسنة، لكن هذا لا يكفي لوحده، لا بد أن يكون الشكل جيداً والمضمون -أيضاً- جيداً، وكذلك الذي يهمل شكله، نقول له: يا أخي! أصلح شكلك ما دمت طيباً، والدعاة إلى الله في تعاملهم مع الناس يجب أن يكونوا طيبين، وليس هذا من المداهنة كما يظن بعض الشباب أنها مداهنة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية يفرق بين المداهنة والمداراة، يقول: المداهنة هي: ترك شيء من الدين لشيء من الدنيا، تترك شيئاً من دينك من أجل أن تأخذ شيئاً من دنيا الناس، أما المداراة وهي في الشرع مطلوبة: هي ترك شيء من الدين لتحقيق شيء أعظم من الدين، فأنت عندما تترك شيئاً من الدين وهو البغض مع هذا الإنسان العاصي تركت البغض، لكن لتحقق شيئاً أعظم منه وهو أن تهديه إلى الله، وهذا مجرب وواقع، ينبغي أن نتمثله، وأن نسلك سبيل الدعوة إلى الله بالكلمة الطيبة، وبالعبارة الشيقة، يقول الله: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:٥٣].
ابحث في قواميسك عن أحسن عبارة، وابتسم لأي شخص تريد أن تدعوه