توضيح لقوله: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ)
قال عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:٢٧ - ٢٨]، يحبسون على النار، ويوقفون عليها، فيرون المزلة والغبن والحسرة والندامة، فيقولون: ((يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ)) يا ليتنا نعطى فرصة ثانية ونرجع إلى الدار الخالية، فنعمل فيها عملاً صالحاً؛ من أجل أن نفوز بالجنة وننجو من النار {وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:٢٧].
قال الله عز وجل: إن هؤلاء لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه؛ لأن الذي ينقصهم ليس الدليل؛ الآن الذي ينقص العاصي والفاجر والكافر هل هو الدليل على أن الله أرسل رسولاً صادقاً، وأنزل كتابَ حقٍ، وشرع دينَ حقٍ؟ لا.
الله عز وجل يخبرنا في القرآن أنهم لا يكذبون الرسول، قال الله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:٣٣] ويقول عن فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:١٤].
فالأدلة قائمة، لكن ما الذي يجعل الواحد -والدليل قائم، والبرهان ساطع، والحق واضح- يأبى؟ بسبب طبيعة التكذيب في نفسه، وطبيعة الانهزام والشر والعناد والرغبة في الباطل، وعدم الرغبة في الخير، ولهذا حتى لو أدخله الله النار ثم أخرجه منها سوف يعود في المعاصي، كيف أيعقل هذا؟! نعم يعقل.
وقد كنت أقول وأتأمل سبحان الله! كيف يكون هذا؟! حتى علمت من رجل وقع في ترويج المخدرات، وقبض عليه، وأودع في السجون، وفصل من وظيفته، وأسقط اعتباره، وصدرت عليه المحكوميات الطويلة، وعانى ما عانى من الهوان، وضاعت أسرته، وتشتت شمله، وضاعت أمواله، وفي يوم من الأيام قمت بزيارته ونصحته في السجن، وقلت له: هل لذة ومتعة المخدرات تساوي كل ما نالك من هذا العذاب في الدنيا، {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:١٢٧]؟ فصلت وكنت في مركزٍ مرموق، وبددت ثرواتك، وضيعت أسرتك، وشتت شملك، وأسقط اعتبارك غداً تخرج من السجن فلا يلقاك في الشارع أحد يسلم عليك، وإذا أردت أن تتوظف ما أحد يوظفك، وإذا أردت أن تتزوج ما أحد يزوجك، وإذا دخلت في مجلس ما أحد يقوم لك، وإذا سلمت ما أحد يرد عليك السلام؛ لأنك شوهت سمعتك، وأسقطت نفسك، ما الذي ألجأك إلى هذا؟! فقال لي: يا شيخ سعيد! يكفي لا تلمني.
قلت: لن ألومك، لكن ماذا تنوي أن تفعل في المستقبل؟ هل أخذت درساً من هذا الوضع؟ قال لي: قد عضضت أصابع الندم يقول: عضيت على العشر وتبت إلى الله، وأعاهدك أنني إن شاء الله إن أخرجني الله سأسير سيراً حسناً، وسأسلك مسلكاً رشيداً، ولن تراني إن شاء الله على سوء بعد اليوم.
ومرت السنون والأعوام، وقضى في السجن سنين تهد الجبال، وخرج من السجن وزرته بعدها، وذكرته بوعده، وقلت له: خلاص الآن أعاد الله لك حريتك وأصبحت الآن طليقاً، فاسلك سبيل الهدى والرشاد واستقم على طريق الخير، ووضعت له منهجاً وبرنامجاً، ومرت الأيام ثم يحيط به قرناء السوء من جديد ولا أسمع إلا وهو يسجن من جديد، ويبلغني الخبر، قالوا: ليس في قضية ترويج فقط، بل ترويج وتهريب؛ لأن الترويج عقوبته في المرة الأولى السجن، والمرة الثانية نسف الرأس، فهذا يكفيه يوم روج المخدرات أنه يقتل، لكن لا، يريد يروج وتعاقد على تهريب وهرَّب المخدرات وكشفه الله، وأودع السجن، وبعدها ذهبت أزوره، قلت: أين عهدك يا فلان؟ قال: الشيطان! قرناء السوء! قلت: سبحان الله! صدق الله عز وجل: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:٢٨] الآن ما عاد معك فرصة تخرج، ومضت عليه أيام وليالي وصدرت المحكوميات وإذا به يعلن وأنا أسمع في الإذاعة أنه قد أقيم عليه حد المحاربة لله بقطع رقبته وضربها بالسيف، وخسر كل شيء، هو روج المخدرات يريد أن يتاجر، وهربها يريد أن يربح، فخسر رقبته ونفسه وحياته، ولا أعلم كيف سيكون مصيره عند الله عز وجل.
إذاً يا أخي! هذا المشهد لأهل النار يقول الله فيه: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:٢٧ - ٢٨] ما الذي كان يخفيه الكفار من قبل؟ قال العلماء: بدا لهم ما كانوا يخفون من الإيمان والفطرة والتصديق بالله، فإن الله فطر النفوس على الإيمان به، يقول الله عز وجل: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:٣٠] {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} وهي الدين {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة:٣٦] ولكن يأتي الإنسان فيغطي الفطرة من أجل شهواته وملذاته، فإذا بعث، قال الله عز وجل: {بَلْ بَدَا لَهُمْ}، بل هنا حصل لهم ما كانوا يخفون من الإيمان والفطرة، ولكن هؤلاء طبيعتهم التكذيب، ولو خرجوا {لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.
هذه النار التي توعد الله بها الكفار والفجرة والمنافقين والعصاة وحذر منها أهل الإيمان وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:٦].