كتب لي أحد الإخوة كتاباً يقول فيه: إنني أحبك في الله -جزاه الله خيراً وأحبه الله- قد ورد في سؤال لك حول التوبة من جريمة الزنا، قلت: إن الله تعالى يبدل سيئات الزاني حسنات، بل ملايين الحسنات -أنا قلت يوماً من الأيام: إذا كان لك مليون سيئة فإن الله يمحوها ويجعل بدلها مليون حسنة- الأخ له رأي يقول: أنا لا أعترض على الآية، ولا على كرم الله، ولا على جوده وفضله، ولكنني سمعت قولاً لأهل العلم: أن الحسنات المقصودة التي تبدل للتائب، والتي في سورة الفرقان، المقصود منها: أن الله يغفر ويعفو عن عبده ما فعل في الماضي، وهذا فضلٌ من الله وجود وكرم، أما أن يبدلها ملايين الحسنات، فلا، ليس لأن الله كرمه محدود ولكن لأن صاحب هذه الكبائر لا يستحق ملايين الحسنات، بدل الكبائر التي فعلها، ويكفيه أن الله قد غفر له، وعفا عنه، وقبل توبته، وهذا فضلٌ من الله ونعمة وكرم، ثم إن بعض ضعفاء النفوس -هذا كلام الأخ- قد يستغلون هذا الكلام، فيتمادون في طغيانهم، بحجة أنهم سوف يتوبون، ويبدل الله سيئاتهم حسنات، لا سيما وأن الناس يحبون ندواتك، ويقتنون أشرطتك، ويثقون في أقوالك، وهذا فضلٌ من الله عليك، فأرجو أن تنبه على هذا الموضوع في ندوة أخرى.
الجواب
جزى الله هذا الأخ خيراً، وأقول له: إن هذا القول الذي ذكرته، ليس القول الراجح في أقوال أهل العلم في هذه المسألة، صحيح قاله بعض أهل العلم، ولكن الذي رجحه ابن كثير في تفسيره، عند كلامه على هذه الآية خلاف ما ذكرت، وقال: والصحيح الذي عليه الأدلة الشرعية من كتاب الله وسنة رسول الله؛ أن الله يبدل السيئات حسنات بعددها، ما هو الدليل؟ قال الدليل: ما رواه مسلم اسمعوا الحديث، صحيح لم يعد هناك كلام، إذا ورد نهر النقل بطل نهر العقل، اجعل عقلك يجلس، قال: ورد في صحيح مسلم عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة، وآخر أهل النار خروجاً منها، رجلٌ يؤتى به يوم القيامة فيقول الله: اعرضوا عليه صغار ذنوبه) آخر من يخرج من النار، وآخر من يدخل الجنة، أحدهم ذنوبه كثيرة، لكن الله أخرجه، قال:(فتعرض عليه ذنوبه، وترفع عنه الكبائر -يرى الصغار فقط- فيقال: هل عملت كذا يوم كذا وكذا؟ فيقول: نعم) لا يستطيع أن ينكر؛ لأنه إذا أنكر ظهر الشهودُ منه، وهو مشفقٌ من كبار الذنوب؛ يقول: الآن سألوني عن الصغار، كيف الكبار؟ سألوني عن النظرة، والضحكة كيف إذا جاءت الكبيرة؟ قال:(وهو مشفقٌ من كبار ذنوبه، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئةٍ حسنة) هذا نص في الموضوع، مكان كل سيئة، يعني: من الذنوب التي أحصيناها لك، ليست من الذنوب التي في المستقبل ستعملها، لا.
الذنوب التي عملتها، عملت كذا يوم كذا، قال: نعم، عملت كذا يوم كذا، قال: نعم، فيشفق من الكبار، قال:(فيقال له: فإن لك مكان كل سيئةٍ حسنة، فيقول: يا رب! قد عملت أشياء كبيرة ما رأيتها)؛ يقول: الآن أعطوني الكبار ما دام أن الله يبدلها حسنات، أخرجوا الكبار، سبحان الله! قال:(فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه) كان يتصور وهم يسألونه: عملت كذا يوم كذا يتصور أن هناك عقبة، ويقول: كيف لو أتوا بالكبار؟ ويوم عرف أن بكل سيئة حسنة، قال: هناك أشياء ما رأيتها، أين هي يا رب؟ ائتوا بها كلها من أجل أن آخذ مقابلها حسنات.
هذا جواب عليك يا أخي! في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في الصحيح، ارجع إلى صحيح مسلم، وارجع إلى تفسير ابن كثير، لتجد هذا الحديث صحيحاً عن أبي ذر.
وذكر ابن كثير حديثاً آخر، يرويه الإمام ابن أبي حاتم رحمه الله، ويقول:(جاء رجلٌ كبيرٌ هرمٌ قد سقط حاجباه على عينيه فقال: يا رسول الله! رجلٌ غدر وفجر، ولم أدع حاجة ولا داجة إلا اقترفتها -لو قسمت خطاياه بين أهل الأرض لأوبقتهم، يقول: سني كبير حتى سقطت جفوني على عيوني وأنا في المعاصي- فهل لي من توبة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أأسلمت؟ قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقال له: فإن الله غافرٌ لك، ومبدلٌ سيئاتك حسنات، فقال: يا رسول الله! وغدراتي وفجراتي؟! قال: وغدراتك وفجراتك، فولى الرجل يكبر ويهلل) وهو يقول: لا إله إلا الله، الله أكبر!! فهذا الحديث والذي قبله نصٌ في القضية، أما أن يقال: إنا إذا قلنا للناس: إن الذنوب تبدل حسنات فسيتمادون، فهذا ليس بصحيح، بل إذا قلنا: إن الذنوب تبدل إلى حسنات هو الذي يدفعهم إلى التوبة، أليس كذلك؟ عندما يعرفون فضل الله عز وجل يسارعون إلى الله بالتوبة، فهذا القول.
وعلى كلٍ جزاك الله خيراً، وقولك الذي ذكرته، وقلت: قال به بعض أهل العلم، نقل عن مجاهد وعكرمة، ولكن الذي رجحه أهل العلم والمحققون منهم، ما اتفق مع الدليل، وما اتفق مع نص الآية، فإن نص الآية كما قال الله عز وجل:{فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}[الفرقان:٧٠] والقرآن نزل بلسان عربي مبين، وقضية الإبدال، هو إخفاء شيء ووضع شيء، فالله تعالى قال:{فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}[الفرقان:٧٠] فدل بالمنطق والعقل والدليل أنه يبدلها من سيئات إلى حسنات، أما أن يغفرها رب العالمين، فهذا فضل منه، وقد أخبر في آية أنه يغفرها، لكنه كريم يغفرها ويبدلها، ماذا نقص عليك؟ ربك كريم.