للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أصحاب العذاب والمغفرة يوم القيامة]

يقول تعالى: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الحديد:٢٠] التي نعيشها {إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:٢٠] متاع الخداع، مثل الفقاعة، الفقاعة التي ترونها تطلع في الصابون ما شاء الله كبيرة لكن انفخها، هل بقي شيء منها؟ هذه الحياة فقاعة، بيتي، قصري، أولادي، عماراتي، وإذا ذهن الواحد وضربوا برأسه في القبر أين المرأة؟ والله ليس معي شيء، فأين العمارة! والسيارة! والأولاد؟! فلا يرى إلا ما قدم، لا يرى عن يمينه إلا ما قدم، وعن شماله إلا ما قدم، كذلك أمامه لا يرى إلا ما قدم، ألا (فاتقوا النار ولو بشق تمرة) لا يرى إلا جهنم أمامه، ولا يتقي النار إلا بشق تمرة بالمال والإنفاق في سبيل الله عز وجل.

{وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:٢٠] لمن العذاب الشديد؟ ولمن المغفرة والرضوان؟ من هم أصحاب العذاب الشديد؟ ومن هم أصحاب المغفرة من الله والرضوان؟ هؤلاء ذكرهم الله في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع من القرآن: قال الله عز وجل حكاية عن موسى وهارون حينما قالا لفرعون: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:٤٨] {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ} [طه:٤٨] الذي ذكر الله فيه وقال: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الحديد:٢٠] {أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:٤٨] هذه أعمدة الكفر: تكذيب بالحقائق الإيمانية، وتولي عن التكاليف الشرعية، فلا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ولا بالملائكة، ولا بالرسل، ولا بالأنبياء، ولا بالبعث، ولا بالجنة، ولا بالنار، ولا بالصراط، ولا بالميزان، ولا بالكتب، فهذا التكذيب.

والتولي: لا يصوم، ولا يصلي، ولا يحج، ولا يتصدق، ولا يعمل الخير، ويقع في الشرور، وهذا عليه العذاب.

وقال عز وجل: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} [الليل:١٤] أي: تشتعل وتضطرم {لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} [الليل:١٥] من هو يا رب؟! قال: {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:١٦].

وقال في سورة القيامة: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:٢٦] التراقي هي عظم الترقوة، والروح إذا أذن الله بخروجها تأتي إلى الترقوة ثم تبقى هناك، لا تنزل فيحيا ولا تخرج فيموت، يقول تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:٨٣] {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} [الواقعة:٨٤] جلوس عند رأس الميت {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} [الواقعة:٧٥ - ٨٦] هل عندكم قوة {تَرْجِعُونَهَا} [الواقعة:٨٧] هل تقدرون أن تردوا الروح؟ من يستطيع أن يرد الروح إلى الداخل؟ هل يستطيع أحد في الدنيا؟ رئيس جمهورية الاتحاد السوفيتي " تشير نمكو " و" بودقرني " هؤلاء الكبار لما جاءهم الموت هل نفعتهم صواريخهم؟ قنابلهم؟ دباباتهم؟ جيوشهم؟ ترجع لهم الأرواح؟ لا.

{تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:٨٧].

قال: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [المدثر:٢٦ - ٢٧] راق هنا: أي: راقٍ يرقى، أو طبيب أو معالج {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:٢٨] أي: تأكد له أنه خارج من هذه الدنيا {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:٢٩] يمكن حضر منكم أحد جنازة إنسان وكان ينظر في أرجله كيف كانت؟ أصبحت ملفوفة هكذا، ملفوفة على بعضها {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:٢٩] لأن علامات الموت كثيرة منها: ميلان الأنف؛ لأن الأنف هذا غضروف والحياة تدب فيه، فإذا خرجت الروح منه مال الأنف، وانخفاس الصدغين، والصدغ هذا فيه حياة إذا خرجت الروح تصير هذه قعرة وهذه قعرة، وانفكاك المفاصل، وبرودة الأطراف والتفاف السيقان.

{وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:٢٩ - ٣٠] والله -يا إخوة- إن هذه الآية إنها تهز نياط القلوب لو كان في القلب إيمان وخوف من الله وقوة يقين {إِلَى رَبِّكَ} [القيامة:٣٠] ربك يقول لك: إنك سوف تكون في هذا الوضع في يوم من الأيام طال أو قصر، سوف تكون في هذا الموقف الذي تلتف فيه ساقك بساقك، وتكون ضعيفاً لا حول لك ولا قوة! ثم {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:٣٠].

كيف تلقى الله ووجهك أسود؟ كيف تلقى الله وعملك سيء؟ كيف تلقى الله وكتابك مملوء بالمعاصي والذنوب؟ {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} [القيامة:٣٠ - ٣١] عكس هناك {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ} [القيامة:٣١ - ٣٢] ماذا؟ {كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:٣٢] هذا السبب {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} [القيامة:٣٣] يتعجرف {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة:٣٤] أولى لك أن تطيع، الكفر ليس خياراً فاضل ولا بديل حسن لك، الأولى لك الهداية، أولى لك الإيمان، أولى لك الالتزام، أولى لك سنة النبي صلى الله عليه وسلم {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} [القيامة:٣٤ - ٣٦] يتركك الله سدى هملاً؟ ما تركك الله وأنت نطفة -خرجت من ذكر أبيك مثل قطعة المخاط- ما تركك الله وأنت نطفة بل حملك نطفة إلى أن جاء مع البويضة وصار أخلاطاً، وصار من هذه الأخلاط علقة، وبعد العلقة مضغة، ومن المضغة عظاماً، ومن العظام إنساناً، ومن الإنسان شق الله سمعه وبصره، ثم أخرجه ثم رباه ثم كبره، إذا صرت رجلاً هل يضيعك الله؟ يحفظك وأنت نطفة ويضيعك وأنت رجل؟! {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:٣٦ - ٤٠] بلى وهو على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢].

قال الكفار لما سمعوا بخبر البعث: كيف يبعثنا الله ونحن موجودون وقد مات أناس وبقي أناس يموتون؟ قال الله عز وجل: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:٢٨] صعب عليكم لكن عند الله ليس بصعب، وقال: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:٧] قال الله: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:٧] وقال: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:٥٧] كيف تستبعد من الله أن يعيدك وأنت لا تتفكر فيما خلق الله وخلقك من لا شيء؟ الإعادة أسهل من البداية في عرف الناس أما في ميزان الله لا أصعب ولا أسهل، كل شيء عنده قادر عليه {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:١٣٤] وله القدرة الغالبة ولا غالب له {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:٢١].

هذه الثلاث الآيات بينت لنا أن العذاب على من كذب وتولى.