[الحث على المسارعة والمسابقة إلى الجنان]
أيها الإخوة: هذه الجنة هي دار النعيم، أعدها الله عز وجل لعباده المؤمنين المتقين الأبرار جزاء إيمانهم الصادق وعملهم الصالح في هذه الدار، وجزاء تركهم للمعاصي والذنوب والسيئات، قال عز وجل: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:٧٢] ويقول عز وجل: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً} [مريم:٦٣] أما الفاجر لا يرث إلا النار، ويقول عز وجل: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [المطففين:٢٢] أبرار جمع بَر، والرجل البَر هو الرجل الصالح، رجلٌ بَرٌ تقي ليس بفاجر ولا شقي: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:١٣ - ١٤] ويقول عز وجل: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان:١٢] صبروا على طاعة الله، وصبروا عن معصية الله، وصبروا على أقدار الله المؤلمة، أما الذي لا يصبر على الطاعة، لا يفلح فالصلاة فيها مشقة، صلاة الفجر في المسجد فيها نوع من التعب، لكنه لم يصبر، يريد أن ينام، ولم يصبر عن معصية الله؛ لأن المعاصي محببة، والشهوات مطلوبة عند النفس، لكنه لم يستطع أن يصبر، لم يصبر عن الغناء، ولم يصبر عن الزنا، ولم يصبر عن الربا، ولم يصبر عن الحرام -والعياذ بالله- فهذا لم ينجح ولن ينجح.
{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا} [الإنسان:١٢] جزاهم بسبب صبرهم: {جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان:١٢] ثم بعد ذلك رغب الله الناس وشوق الله الناس، فكان يكفي في القرآن الكريم أن يقول الله: من أطاعني فله الجنة ومن عصاني فله النار، ويبين لنا ما في الجنة من شيء، لكن القرآن مملوء من أوله إلى آخره بالترغيب والتشويق والتنويع والتفصيل لما أعد الله في الجنة لعباده المؤمنين من أجل تشويق النفوس وجذبها إلى هذه الجنة العالية، يقول الله عز وجل: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:٢١] اللهم إنا نسألك من فضلك يا رب العالمين! (سابقوا) إلى ماذا؟ إلى جنة.
كم هي مساحتها؟ عرضها كعرض السماء والأرض.
أعدت وهيئت لمن؟ للذين آمنوا بالله ورسله.
بعد ذلك قال الله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ} [الحديد:٢١] ذلك الفضل العظيم يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ثم قال في سورة آل عمران: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:١٣٣] لما أمر الله عز وجل بالسير إلى الجنة أمر بالمسارعة والمسابقة والفرار، فقال في سورة الحديد: {سَابِقُوا} [الحديد:٢١] وقال في سورة آل عمران: {سَارِعُوا} [آل عمران:١٣٣] وقال في سورة الذاريات: {فَفِرُّوا} [الذاريات:٥٠] كلها إلى الله، ولما أمرنا الله بالسير في الدنيا والمعيشة قال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:١٥] امشوا على مهلكم، وكلوا من رزقه، ليس من رزقكم، والله إن أسرعت أو أبطأت لن تأكل إلا رزقك، وفي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (من أصبح والدنيا همه) مفتوح قلبه على الدنيا -والعياذ بالله- مثل جهنم: {هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:٣٠] طالب الدنيا مثل شارب البحر، كلما زاد شربه زاد عطشه: (لو أن لابن آدم واديان من ذهب لتمنى الثالث، ولا يملأ جوفه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب).
يقول عليه الصلاة والسلام: (من أصبح والدنيا همه فرق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه) الملايين في (البنك) لكنه لا يرى إلا الفقر، لا يرى الأرصدة ولا يرى العمارات ولا يرى السيارات، لا يرى إلا الفقر! وإذا رأيته تراه ملهوفاً كمثل الكلب إن تتركه يلهث أو تحمل عليه يلهث، تسأله: ماذا عندك؟ قال: والله الأمور صعبة، والسيولة منعدمة هذه الأيام، والأحوال متأزمة، كأنه لا يملك عشاء ليلته، لماذا؟ لأنه لا يرى إلا الفقر بين عينيه: (وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له).
(ومن أصبح والآخرة همه) في قلبه مثل النار مما أمامه من الأهوال والأخبار، همه القبر والحشر، همه الجنة كيف يدخلها، همه النار كيف ينجو منها، كيف صلى، كيف صام، كيف تصدق، كيف ربى ولده، كيف حفظ زوجته، كيف بنى دينه، كيف حمى عقيدته، كيف دعا إلى دينه، هذا الذي همه الآخرة، قال: (ومن أصبح والآخرة همه جمع الله له شمله -أموره المتفرقة يجمعها الله له- وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة) هو لا يفكر فيها لكن تأتيه، وليس من شأن المسلم أن يرفض الدنيا إذا جاءته فلا يرفضها، بل يأخذها ويسخرها في طاعة الله؛ لأن الدنيا مثل الدابة إما أن تركب عليها أو تركب عليك، فإن كنت مؤمناً ركبت عليها، وذهبت بها إلى الله، وإن كنت فاجراً ركبت عليك وجعلتك حماراً لها تذهب بك إلى النار، فكن راكباً على دنياك، ولا تكن مركوباً لها.
فالله عز وجل أمرنا أن نسارع وأن نسابق إلى الجنة، وأما الدنيا فأمرنا أن نسير وأن نمشي فيها، ولكن هل الناس -أيها الإخوة- واقعيون مع هذه الآيات في حياتهم، أم أنهم يلهثون ويسارعون بل ويقتحمون ويقتتلون على الدنيا؟ وأما الآخرة فقليل من يسير في طريقها، وإذا أراد طريقها فإنه لا يسرع وإنما يمشي، وبعضهم يعثر وبعضهم لم يمش خطوة واحدة في طريق الله، وهو يسارع بكل أسلوب بالليل والنهار، وبكل تفكير واهتمام في الدنيا، أما إذا جاءت الصلاة والدين فإنه يعثر الخطا.
فهذا لم يعرف الله ولم يعرف دينه، وهو خاسر وسوف يعض أصابع الندم ولكن حين لا ينفع الندم.