[السلف وكثرة ذكرهم للموت]
فهذه عقوبات من لا يكثر من ذكر الموت.
وقد جاءت امرأة إلى عائشة رضي الله عنها تشكو قسوة قلبها، فقالت لها عائشة: [أكثري من ذكر الموت يرق قلبك] ففعلت المرأة ذلك العمل فرق قلبها، وجاءت تشكر عائشة رضي الله عنها وتخبرها بأن الله عز وجل قد رقق قلبها لذكره.
وعندما تكثر ذكر الموت تهون عليك المصائب؛ لأن الموت أكبر مصيبة، فأي مصيبة تأتي في الدنيا فتذكر أن الموت سوف يأتي قريباً.
يقول عمر بن عبد العزيز: [إذا كنت في سعة من العيش وأردت أن يضيق عليك العيش فاذكر الموت، وإذا كنت في ضيق من العيش وأردت أن يتسع عليك العيش فاذكر الموت] كيف؟ قال العلماء: إذا كنت في سعة وذكرت الموت ضاقت عليك السعة لأنك تعلم أنك سوف تموت وتتركها، وإذا كنت في ضيق دين هم غم، وذكرت الموت تقول: سوف أموت وما هي إلا أيام وليالٍ على الهم هذا.
فالموت ما ذكر في كثير إلا قلله، ولا في واسع إلا ضيقه، وما ذكر في قليل إلا كثره ولا في ضيق إلا وسعه، فذكر الموت فيه الخير وفيه كل شيء.
يقول أبو الدرداء: [ثلاث أحبهن ويكرههن الناس، قالوا: وما هن؟ قال: الفقر، والمرض، والموت.
قالوا: ومن يحبها يرحمك الله؟ قال: أما الفقر فتواضعاً لربي، وأما المرض فتكفيراً لخطيئتي، وأما الموت فللقاء ربي].
وقد كنا مرة في طائرة متجهة من جدة إلى الرياض، وفي أثناء الطيران حصل خلل في الطائرة، حيث توقف أحد المحركات وبقي محرك يعمل، فتصعد الطائرة بالمحرك هذا إلى السماء لكي لا تسقط على الأرض، ثم تنزل أحياناً إلى مائتين أو ثلاثمائة متر سقطة واحدة، فتكاد القلوب أن تنخلع، وأعلن قائد الطائرة للناس: أنه يريد أن يرجع، وبدأ الناس بالبكاء والصراخ، وكان معي في الطائرة اثنان من الإخوة وكنا في ثلاثة مقاعد في الوسط، وكنت أنظر إليهم وإلى الذين في الطائرة؛ فأجد بعضهم قد وضعوا رءوسهم تحت الكراسي، وبعضهم يصيحون، وآخرون يولولون، وهؤلاء الإخوان كل شخص يقول: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها اللهم أحسن خاتمتنا اللهم الطف بنا، والعالم في ذهول ودهشة، وشاء الله أن تسلم الطائرة وننزل.
وأقول للإخوان: كيف؟ قالوا: نحن لو متنا عندنا أمل في الله كبير أن يرحمنا برحمته، وإن كانت أعمالنا قليلة لكن حسن ظننا بربنا في تلك اللحظات يجعلنا نأمل خيراً، ولهذا ذكرنا الله، ولو متنا إن شاء الله فإن الخاتمة ستكون جيدة.
وأنظر إلى هؤلاء وخاصة في أناس ليسوا مسلمين يظهر عليهم أنهم (خواجات) والله يا إخواني إنه بلغ بهم من الرعب شكلاً لا يتصوره العقل، وخصوصاً بعض مضيفات الطائرات.
فذكرك للموت يجعلك دائماً تستعد، فإذا جاء الموت أو رسل الموت أو نذر الموت وإذا بك لا تخاف.
ولما جاءت ساعة الاحتضار لـ عامر بن عبد قيس جعل يبكي، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: والله ما أبكي جزعاً ولا حرصاً على الدنيا، ولكني أبكي على ظمأ الهواجر، وعلى قيام ليالي الشتاء.
يقول: حيل بيني وبين ظمأ الهواجر بالصيام، وقيام الليالي في الشتاء بالصلاة، والشتاء يسميه العلماء: غنيمة المؤمن، فإن نهاره قصير وليله طويل، فيستغله أصحاب التوفيق في صيام النهار، أو ما قدروا عليه من الأيام، وفي قيام الليل، فإن الليل طويل فيكفيك منه ساعات في النوم، ثم تستطيع أن تستيقظ آخر الليل فتصلي ما شاء الله لك، ثم تجلس تستغفر في الأسحار حتى يؤذن الفجر ثم تذهب تصلي الفجر في المسجد، فهذا توفيق عظيم، فإذا كنت قد حرمت قيام الليل في أيام الصيف لقصر الليل فلا يفوتك أيضاً قيام الليل في الشتاء، فهو غنيمة المؤمن.
انظر أخي! كيف كانوا يذمون أنفسهم على تقصيرها مع حسن عملهم، أما نحن فقد جمعنا بين الإساءة في العمل والأمن من عذاب الله، يعني: ينبغي أن يحسن الإنسان العمل ويخاف مع هذا، يقول الله عز وجل عن الصحابة وعن السلف الصالحين: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:١٧ - ١٨] وقال سبحانه وتعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:١٦].
وهكذا شأن الصالحين أنه يحسن في العمل ويخاف من الله.
أما المخذول -والعياذ بالله- يسيء العمل ولا يخاف من ربه، وإذا قلت له يقول: يا شيخ! الله غفور رحيم، فهو عنده إساءة وأمن، وذاك عنده عمل طيب وخوف من الله، فهذا هو الطيب.
يقول شداد بن أوس رضي الله عنه: [الموت أفظع هول في الدنيا على المؤمن، وهو أشد على المؤمن من نشر بالمناشير، وقرض بالمقاريض، وغلي في القدور، ولو أن الميت بعث ونشر فأخبر أهل الدنيا بألم الموت ما انتفعوا بعيش وما تلذذوا بنوم].
فكأنك بالعمر يا أخي! وقد انقرض، وهجم عليك الألم والمرض، وفاتك كل مراد وغرض! {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق:٢٢] شخص البصر، وسكن الصوت، ونزل بك ملك الموت: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق:٢٢] بلغت الروح إلى التراقي، ولم تعرف الراقي من الساقي، ولم تدر عند الرحيل متى التلاقي: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق:٢٢].
ذكرنا أيها الإخوة أن من الأمور التي تعينك على عبادتك لربك وانتشالك لنفسك من الغفلة ذكرك لسكرات الموت، ولكن كيف تعرف سكرات الموت؟ هذا موضوع طويل، أخذنا منه بطرف، ولكن التوسع فيه يحتاج إلى درس كامل، وهو إن شاء الله ما سيكون موضوع الدرس في الشهر القادم إن شاء الله وسوف يعلن عنه، هذا الدرس بعنوان: غمرات الموت، لكن القادم سيكون بعنوان: سكرات الموت، وستتوالى الدروس في هذا الأمر حتى نستيقظ، فإن الذي لا ينتبه ولا يتعظ ولا يستيقظ بالموت ولا بالقرآن فمتى يتعظ؟ الواعظان اثنان: القرآن والموت، فمن لم يتعظ بالقرآن ولا بالموت فلو تناطحت الجبال بين عينيه لم يتعظ والعياذ بالله.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يخفف علينا سكرات الموت، وأن يوقظ قلوبنا وإياكم من الغفلة، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، كما نسأله تبارك وتعالى أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنك سميع الدعاء.
اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا ونعمتنا واستقرارنا، اللهم من أرادنا في هذه الديار أو غيرنا من ديار المسلمين بسوء أو شر أو كيد أو مكر فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، وأنزل عليه بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحبه وترضاه، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وسوف نجيب على الأسئلة باختصار، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.