للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[طريقة القياس العقلي والمنطقي]

فالأمر الأول وهو القياس العقلي المنطقي لأهل العقول الذين يقولون: لا نرضى بالدليل، نريد فقط أدلة عقلية منطقية مثل: (١+١=٢) وإلا فلا نقبل.

فنقول: قال الله عز وجل: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:٧٨] فرجل من الكفار جاء بعظم لميت من المقبرة، فحمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفت العظم بين يديه، وقال: يا محمد! تزعم أن ربك بعد أن نكون عظاماً ورفاتاً يبعثنا ويعيدنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (نعم، ويدخلك الله النار) فنزل القرآن يؤيده في نفس اللحظة، فقال الله: {وَضَرَبَ} [يس:٧٨] يعني: هذا الكافر {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:٧٨] فضرب بالعظم مثلاً ونسي العظم الذي يحمل العظم، جاء يفت العظم بالعظم المحمول؛ لأن العظم هو الأساس لكل شيء في الإنسان، فالعظم يحيط بالمخ والمخ هو مركز الدماغ، والدماء هل تعلم أين تصنع؟ تصنع داخل نخاع العظم، فهذه الدماء الموجودة فينا، تكسر فينا كريات الدم الحمراء كل مائة وعشرين يوماً، بعد أربعة أشهر كل الدماء التي تلفت تكسر وتذهب مباشرة إلى الطحال، وتقوم العظام بعملية توليد جديد وخلق جديد للدماء، فالعظم الذي يحمل العظم يقول الله فيه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:٧٨] قال الله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:٧٩] الذي خلقها أولاً أيعجز أن يخلقها ثانياً؟! لا.

فسبحان الله!! {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٠ - ٨٢] الأمر عند الله بين الكاف والنون، لا وسائل ولا إمكانيات، بل كن فيكون، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء تبارك وتعالى، فهذا هو القياس المنطقي الأول.

القياس الثاني في سورة مريم: يقول الله عز وجل: {وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} [مريم:٦٦] يعني أنه يستبعد ذلك، يقول: إذا مت أخرج مرة ثانية حياً؟ {وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} [مريم:٦٦] قال الله تعالى: {أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} [مريم:٦٧] لماذا تنسى أن الله خلقك ولم تكن شيئاً؟! فأنت تعيش منذ ثلاثين سنة، فأين كنت قبل الثلاثين؟ ارجع إلى الوراء قليلاً يا صاحب العضلات والجسم القوي، والبنية المشدودة، ارجع إلى تاريخك قليلاً واذكر كيف كنت؟ كنت أول خلقك نطفة مذرة، خرجت من ذكر أبيك، لو صرفت هذه النطفة لكانت كالبصاق أو كالنخامة، هذا هو أصلك -أيها الإنسان- من ماء مهين، لقد خلق الله الإنسان من ماء حقير، لماذا تتكبر؟ {أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً * فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} [مريم:٦٧ - ٦٨]: هؤلاء المكذبين، الضالين، الشاردين الهاربين: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً} [مريم:٦٨] أي جاثين على ركبهم: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً * وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم:٦٩ - ٧٢] نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، اللهم اجعلنا منهم وآباءنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وجميع المسلمين.

{وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:٧٢] فهذا المنطق الثاني، إن الله تعالى أولا يذكر الإنسان أنه كان نطفة مذرة، ثم صار علقة، ثم صار مضغة، ثم صار عظاماً، ثم كساه الله لحماً، ثم بعد هذا اللحم أنشأه الله خلقاً آخر، ثم أخرجه، خرج من موضع البول مرتين، الأولى: من ذكر أبيه، والثانية: من فرج أمه.

يقول: [يا بن آدم! كيف تتعالى على الله وأولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وفي بطنك تحمل العذرة].

بعض الناس تقول له: صل، فيأبى، ولا يعلم ما بداخله، فلولا أن الله كتمه وما أظهر رائحته والله لما قعد معه أحد، فوالله لا يوجد أخس من الإنسان، وهذا معلوم، فالغائط والبول الذي يخرج من كل الحيوانات لا يشبه بول وغائط الإنسان، فالإنسان حقير بذاته، لكن الله تعالى كرم الإنسان بهذا الدين، وشرفه بهذا الإيمان، فإذا تخلى عن كرامة الله له وتشريفه له فلا كرامة له، ولهذا قال الله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:١٢] هذا القياس الثاني المنطقي.

والقياس الثالث جاء في سورة الحج: قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ} [الحج:٥] فإذا كان عندكم شك من البعث فتعالوا وخذوا الأدلة، ما من يوم إلا فيه خلق جديد، وفي كل بيت من بيوت المسلمين تجد آل فلان جاءهم ولد، آل فلان جاءتهم بنت، تعال وانظر إلى هذا المولود، من أين جاء؟ من شق بصره؟ من صوره؟ من قدره؟ من ركبه؟ من جعل فيه هذا الاتساق وهذا الخلق وهذه الحكمة العظيمة؟ من ركب له العينين في رأسه؟ من ركب له الأذنين في رأسه؟ من ركب له الرئة رغم أنه في بطن أمه لا يتنفس؟ من أعطاه القدمين رغم أنه لا يستعملها إلا بعد سنة أو سنتين؟ من أعطاه هذه الأجهزة وهذا الخلق وهذا اللسان؟ إنه الله الذي لا إله إلا هو: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:٧ - ٨] ويقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:٥ - ٧].

انظر إلى هذه الخمس الأخيرة، كل العرض السابق كله لتقرير هذه الخمس الأصول! خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ، ثم يقر في الأرحام ما يشاء، ثم بعد ذلك: يخرجكم طفلاً لتبلغوا أشدكم، ثم تكونوا شيوخاً، ثم بعد ذلك: منكم من يرد إلى أرذل العمر، أي يبقى إلى أن يشيخ كلياً.

ومنكم من يتوفى، وبعد ذلك: {تَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً} [الحج:٥] وهذا هو الدليل على الإحياء، وهو أن الأرض الهامدة الجامدة إذا أنزل الله عليها الماء اخضرت واهتزت وربت وأنبتت ألواناً بهيجة: {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:٥].

ثم قال الله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:٦ - ٧].

هذه ثلاث آيات دلت بالمنطق والعقل على قدرة الله على الإحياء بعد الموت.