الحمد لله على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل النار، ونعوذ بالله من صباح إلى النار، ومن ليلةٍ إلى النار، أو في النار، أو ساعة في النار، أو لحظة في النار؛ فإن أجسامنا لا تقوى على النار، وأحوالنا لا تتحمل ظلمات النار ولا ظلمة القبور، انظروا كيف ضاقت أخلاقنا، وكيف تعطلت جوارحنا حينما انطفأت عنا (الكهرباء) لحظةً واحدة، ونحن نعلم يقيناً أنها ستعود؛ لأن ظاهرة الانطفاءات ظاهرة طبيعية في كل مناسبة، وأيضاً على يقين أنه إن لم تشعل (الكهرباء) فلدينا وسائل وبدائل كثيرة نستطيع بواسطتها أن نرى وأن نستفيد من حياتنا.
لكن ما ظنكم فيمن يوضع في القبر وتحتويه الظلمات من كل جانب ولا يعلم من أين يأتيه النور؟ لأن نور القبور إنما يكتسب من سلوك العبد في هذه الدنيا، فمن كان في هذه الدنيا على النور مكنه الله عز وجل من العيش في القبر على النور، قال تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}[النور:٤٠] وقال عز وجل: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ}[الحديد:١٢] لأنهم مؤمنون وأهل عقيدة، ودين، والتزام، وانتماء، وهداية، وانتظام في سلك المؤمنين، قال تعالى:{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ}[الحديد:١٢] فما هو النور الذي يسعى معهم؟ إنه نور العمل الصالح، والإيمان والهداية يسعى أمامهم وعن أيمانهم فتقول لهم الملائكة:{بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ}[الحديد:١٢ - ١٣] أي: أهل الظلمة الذين عاشوا في الدنيا في ظلمة الكفر، والنفاق، والأهواء، والشهوات، والفتن، عاشوا بعيداً عن الهدى وبعيداً عن الرسالات، فعاشوا مع الشيطان في ظلماته؛ لأن الله عز وجل يقول:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}[البقرة:٢٥٧] فوحد النور وجمع الظلمات وفي أول سورة الأنعام يقول ربنا عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}[الأنعام:١] فالظلمات متعددة والنور واحد، وهو نور الله، ونور الإيمان واحد يعيش عليه المؤمن.
أما إذا حرم نفسه من النور؛ فلن يعيش في ظلمة واحدة، بل تتوارد عليه الظلمات وتحتويه من كل جانب:{إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا}[النور:٤٠] كما مثل الله عز وجل بذلك المثل في سورة النور فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ}[النور:٣٩ - ٤٠] أي: أعمالهم إما أن تكون كالسراب وهو العمل السيئ الذي كانوا يتصورون أنه صالح في أذهانهم لكن لما لم يكن خالصاً لله عز وجل قدموا على الله فلم يجدوا شيئاً: {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ}[النور:٣٩] وهناك أعمال سيئة أخرى من الكفر قال: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ}[النور:٤٠] أي: هذا العمل إما كسراب أو كظلماتٍ {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ}[النور:٤٠] والبحر اللجي: هو البحر العميق، والمحيطات الكبيرة التي تزيد أعماقها على ثلاثة آلاف متر.
هذه الحقيقة العلمية التي تحدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن لم تثبت للناس إلا في هذا الزمن بعد صنع الغواصات الذرية التي تستطيع أن تغوص في أعماق المحيطات، فاكتشف بواسطة الأجهزة التي رصدت حركة الموج أن في تلك المحيطات العميقة أمواجاً، وليس موجاً واحداً.
فقد كان الناس يتصورون أنه لا يوجد في البحر إلا الموج الذي على سطح البحر والذي يتكون نتيجة تأثر البحر وسطحه بالعوامل الجوية.
لكن اكتشف أن في أعماق المحيطات أمواجاً ما كانت تعلم قبل هذا الزمان، والذي تحدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بوحي من ربه عز وجل بالرغم من أنه لم يركب البحر، ولم يعرف البحر صلوات الله وسلامه عليه، ولكنه يتحدث عن أخص القوانين وأدق النظم التي تجري في البحار العظيمة وكأنه قد عايشها صلوات الله وسلامه عليه:{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ}[النور:٤٠] يعني: عميق {يَغْشَاهُ مَوْجٌ}[النور:٤٠] أي: هذا البحر يغشاه موج {مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ}[النور:٤٠] وهذه الأمواج تكون موانع لاختراق الأضواء: {مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ}[النور:٤٠] يحول بين الشمس وبين البحر: {مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}[النور:٤٠].
فمن أراد النور في هذه الدنيا والآخرة فعليه بالإيمان والعمل الصالح، ومن عاش في نور مادي، وظلمة معنوية وروحية كافرة والعياذ بالله؛ فإنه وإن تمتع بهذا النور المادي فسوف يشقى -والعياذ بالله- بظلمة القلب والوجه في الدنيا، ثم ظلمة القبر، ثم ظلمة الصراط، ثم في دار الظلمات أجارنا الله وإياكم منها وجميع إخواننا المؤمنين إنه على كل شيءٍ قدير.