[فائدة الإنفاق في سبيل الله في الدنيا والآخرة]
هناك بعض الناس يتصور أنه إذا أعطى فإنما يعطي من حقه، وهذا تصور خاطئ؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:٣٣] ليس لك من المال شيء، وما حقيقة أمرك لما جئت من بطن أمك هل كان معك شيء؟ لقد جئت وأنت عارٍ واستقبلت في خرقة، وستعيش فترة من العمر ثم تخرج عارياً في خرقة أخرى وهي الكفن، فالمال مال الله ساقه إليك من حيث لا تحتسب، فأنفق من مال الله فليس من حقك {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:٧]
وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوماً أن ترد الودائع
انظر الآن في واقعنا كم من الأثرياء يموتون فبماذا يخرجون من الدنيا؟ لا شيء إلا الكفن! بل والله أعرف رجلاً من أكبر التجار عندنا في أبها اقترضوا له الكفن! نعم مات في ساعة متأخرة حوالي الساعة العاشرة، وأبها مدينة صغيرة، أهل الأسواق يقفلون محلاتهم في وقت مبكر، لا تجد بعد العاشرة إلا البقالات، أما أصحاب الملابس والأقمشة ينامون، من يشتري قماشاً في الساعة العاشرة في قرية بسيطة أو مدينة بسيطة مثل أبها؟ فمات الرجل وغسلوه وقالوا: نريد كفناً.
فذهبوا إلى الأسواق فلم يجدوا إلا (سوبر ماركت) أو أسواق مركزية، ويقولون: هل عندكم كفن؟ فيقال لهم: أعوذ بالله! فال الله ولا فالك، كل واحد يقول: فال الله ولا فالك، تريدنا أن نموت قبل آجالنا، لا يوجد كفن اذهب، ما يريدون أن يسمعوا كلمة (الكفن)، أخيراً قالوا: انظروا مؤذن المسجد لعله مدخرٌ كفناً لرجل فقير فيه خير، فجاءوه فقالوا: هل عندك كفن؟ قال: نعم عندي كفن قد هيئته لي لكن خذوه صدقة لوجه الله، يتصدق على من؟ على صاحب الملايين الذي لم يجدوا له من ماله حتى الكفن! إذاً: ما الفائدة من هذا المال، فاتقِ الله! وأنفق من مال الله الذي آتاك.
يظن بعض الناس أنه إذا أنفق فإنما يعطي الناس وأنه يضيع ماله! لا، فإن الله يقول: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} [البقرة:٢٧] لماذا تكون عدو نفسك يا بن الإسلام؟ الله يقول: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد:٣٨] أنت تقول مالي مالي مالي، والحقيقة أنه ليس بمالك، وليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت، وما بقي فهو للورثة، يقول عليه الصلاة والسلام لأصحابه يوماً من الأيام: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: ما فينا أحد يا رسول الله، كل واحد منا يحب ماله، قال: بل كلكم مال وارثه أحب إليه من ماله، قالوا كيف؟ قال: ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت، وما سوى ذلك فللورثة).
وفي ذات يوم يذبح النبي صلى الله عليه وسلم شاة، فقامت عائشة رضي الله عنها فتصدقت بها كلها ولم تبقِ إلا الكتف؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب الكتف والذارع، قال: (ما صنعت الشاة؟ قالت: ذهبت كلها إلا الكتف، قال: لا.
قولي: بقيت كلها إلا كتفها) الذي نأكله هذا هو الذي ذهب، والذي أعطينا لله هو الذي يبقى؛ لأن الله يقول: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:٩٦] (والمرء تحت ظل صدقته يوم القيامة).
يحدثنا أحد المشايخ في أبها عن قصة حدثت قبل خمسين أو ستين سنة عن رجل كان في جبال تهامة مسافراً وفي ليلة شاتية باردة مطيرة ومظلمة، فدخل في غار من المطر الذي كاد أن يقضي عليه، فدخل غاراً وإذا به قبر، كان الناس في الماضي يجعلون الكهوف قبوراً يقول: ونام هذا المسافر من البرد ومن الجوع والسفر والتعب، وبينما هو نائم رأى رجلاً في القبر ومعه امرأته وعندهم بقرة يحلبونها ويشربون من لبنها، لكن لفت انتباهه أن هذه البقرة ليس عليها جلد، والدماء تخرج من جسدها، ليس لها جلد وهي واقفة تحلب، فسأل الرجل: ما هذه البقرة ومن أنت؟ قال: أنا من سكان هذه القرية وقبل سنوات حصلت مجاعة عندنا في القرية، ورأيت الناس في حاجة وكان عندنا هذه البقرة فذبحتها لوجه الله وتصدقت بلحمها كله للفقراء والمساكين، غير أن جلدها أخذته وبعته، فلما مت أعطاني الله عز وجل هذه البقرة بدلاً من بقرتي فأنا أحلبها، لكن ما عليها جلد.
يقول: إنني أتأسف على الجلد، تمنيت أني أَتْبَعْتُ البقرةَ جلدَها حتى أُعطى بقرة بجلدها.
فأنت حينما تتصدق بشيء إنما تعطي نفسك، لكن إذا لم تعط نفسك وأعطيت أولادك، من الذي سيتصدق عنك؟ هل أبناؤنا الآن قد بلغ عندهم الوعي الديني أو الإيمان بالله درجة بحيث إذا متنا قالوا: سوف نعمل له عملاً خيرياً؟ لا.
ليس هناك أحد إلا النادر، وإنما يقولون: هذا المال مالنا أما أبونا فقد ذهب.
أحد الناس في مكة جاءته مائة مليون تعويضات فوضعها في البنك ولم ينفق ولا مرةً ريالاً واحداً، حتى أنه لا يمشي إلا في (شبشب) ومضيق على أولاده وحياته وساكن في شقة، وكل ليلة وهو يَعُدّ ويتصل بالبنك قائلاً: كم الرصيد؟ كم الأسعار؟ فيراه الناس دائماً مشغولاً بالمال وأخيراً مات، فلما مات، رأى أولاده -وكانوا ستة أولاد- أن حجر العثرة قد ذهبت من طريقهم؛ لأنه كان يحول بينهم وبين متاع الحياة، وكانوا يدعون الله غداةً وعشياً أن الله يقبض روحه حتى يتمتعوا بهذا المال.
فلما مات الرجل انطلقوا مباشرةً بعد أيام العزاء الثلاثة يجمعون مال أبيهم وأوراقه ورصيده واقتسموا الأموال وبدءوا مباشرةً يسحبون الرصيد، واشتروا لهم ست سيارات (مرسيدس بنز) كل واحدة تبلغ ثلاثمائة ألف، جاء عمهم من الطائف، وإذا بهم أصبحوا في عمارة في العزيزية، وإذا بالسيارات الفخمة واقفة تلمع كلها! فتعجب قائلاً: ما هذا يا أولاد؟ قالوا: اسكت يا عم، راح (أبو شبشب!) هل تريد أن تكون هكذا يا أخي؟ لا أكلت ولا أبقيت ولا قدمت، هل تعتقد أن هؤلاء سيبنون مسجداً لأبيهم أو شيئاً ينفعه في قبره؟ لا.
وإنما يقولون: لو كان فيه خير لوضع لنفسه، ما وضع لنفسه أنضع نحن عنه؟! وصحيح فيمن لا يضع لنفسه لن يضع له أولاده، فأنت لم تضع لأبيك فكيف أولادك يضعون لك؟! إذاً: الإنفاق في سبيل الله ليس للناس بل هو لك، فلا تكن عدو نفسك.