[تذكرة الآخرة وأحوال أهل النار]
قل لي يا أخي! بربك إذا وقفت ذلك الموقف الرهيب، تصور -يا أخي- ولا تعش في الخيالات ولا تلغِ عقلك.
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
قد كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تفور
وإذا الجبال تقلعت بأصولها ورأيتها مثل السحاب تسير
وإذا البحار تأججت نيرانها ورأيتها مثل الحميم تفور
وإذا الوحوش لدى القيامة أحضرت وتقول للأملاك أين نسير
فيقال سيروا تشهدون فضائحاً وعائبٌ قد أحضرت وأمور
وإذا الجنين بأمه متعلق يخشى الحساب وقلبه مذعور
يخاف، يقول الله: {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} [المزمل:١٧] كيف أنا وأنت ذلك اليوم؟ الأمر أصعب من ذلك، بم تجيب إذا سُئلت هذا السؤال؟ ماذا كنت تعمل؟ ماذا تقول؟ أعد من الآن الجواب.
وأنت الآن في الدنيا إذا مت وفارقت الحياة عند القبر، وقيل لك: ماذا كنت تعمل؟ وقلت لهم: كنت مديراً، هل ينفعك هذا؟ كنت ملازماً، طبيباً، وزيراً، أميراً، ملكاً، رياضياً، نجماً، روائياً، مطرباً، كل هذه لا تنفعك، عندك شيء ثانٍ، ابحث عن غير هذه الوظائف، هذه كلها تنفعك هنا في الدنيا، لكنها عند الموت لا تسقي صاحبها شربة ماء.
يقولون: ماذا كنت؟ كنت مصلياً، قواماً في الليل، صواماً، آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، تالياً لكتاب الله.
هل كانت مخافة الله بين عينيك، فترى عذاب الله دائماً، كأنما لا يعذب في الدنيا إلا أنت، أم أنك تقتحم الذنوب والمعاصي كأنك ضد النار.
فالذي يرى أعمال بعض العباد يقول: إما أن هؤلاء ضد النار أو أنهم مكذبون بالنار، فإن كانوا هم ضد النار فليجربوا وليأخذوا عود كبريت، لا نقول: يأخذوا جمرة، ولا تنوراً كبيراً، ولا النار الكبيرة التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سمع وجبةً وهو مع بعض أصحابه فقال: (أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إن هذا حجر ألقي من شفير جهنم منذ سبعين خريفاً والآن وصل).
ولما نزل قول الله عز وجل: {النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:٢٤] قال رجلٌ: (يا رسول الله! أحجارة جهنم كحجارة الدنيا؟ -أي: مثل الجبال هذه- قال: والذي نفس محمد بيده! لصخرة من صخر جهنم أعظم من جبال الدنيا بأسرها) ويذكر الإمام السيوطي في صحيح الجامع حديثاً يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مقعد الكافر في النار كما بين مكة والمدينة - أربعمائة وعشرون كيلو متراً، هذا الكرسي للكافر في جهنم، وهذا ذكره في صحيح الجامع -: وإن ضرس الكافر في النار مثل جبل أحد) وهذا الضرس! فكيف بالرأس الذي فيه اثنان وثلاثون ضرساً.
والجسم له سبعة جلود؛ لأن الله يقول: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:٥٦] لأن وسائل الإحساس في الجلد، فلو احترق هذا الجلد وما بُدل فلن يحس بالنار، فالله يبدل الجلود، لكي يستمر الإحساس بعذاب النار، وأنت عندما تدخل الإبرة في جلدك، تحس بها في أول الوخزة؛ لكن بعدها لا تحس؛ لأن وسائل الإحساس جعلها الله في خارج الجسد، حتى يحمى الجلد، بحيث تحس بأي شيء، لكن إذا لم يوجد إحساس فإنه يمكن لشخص أن يؤذيك، ويخرج دمك، وأنت لم تحس، وهذه من حكمة الله.
سبعة جلود ما بين الجلد والجلد مسيرة ثلاثة أيام، وغلظ الجلد مسيرة ثلاثة أيام، ومن شدة الإحراق تبدل في كل يوم أربعمائة مرة، فستسأل في ذلك اليوم: ماذا كنت تعمل؟ وهناك: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:٥٢] {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:٢٢٧] {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:٤٧] ما لم يكن يخطر في باله من العذاب، شيء لا يتصوره العقل إذا سقطوا في الإجابة على هذا السؤال.
فمن الآن صحح المسار، واضبَّط العمل، واعرف أنك عن كل شيء مسئول، والله يقول: {وَقِفُوهُمْ} [الصافات:٢٤] أي: قفوهم في عرصات القيامة: {إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات:٢٤] أي: مناقشون ومحاسبون: {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:٢٥ - ٢٦] فليس هناك أنصار، ولا شيع، ولا أحزاب، ولا قوميات، ولا معسكر شرقي، ولا معسكر غربي، إنما بعضهم يلعن بعضاً: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً} [الأعراف:٣٨] إذا تجمعوا: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} [الأعراف:٣٨] فكل جماعة تقول: هؤلاء الذين أضلونا لينالوا ضعف نصيبهم لكن: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:٣٨] نعوذ بالله وإياكم من النار.
فأعد لهذا السؤال جواباً، واجعل هذا السؤال بين عينيك: {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:٩٣] فإذا أردت أن تسهر في الليل، فاسأل نفسك: هل هذا العمل ستجيب عليه ورأسك مرفوع، أم منكوس؟ فإن كان مما تفخر به بين يدي الله فاعمله، وإن كان مما تخجل منه بين يدي الله فكف عنه: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات:٢٤] {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:٩٢ - ٩٣].