للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الوجه الرابع: أن يقال: قوله (وَهُوَ يُطْعِمُ) يتناول إطعامَ الأجساد ما تأكل وتشرب، وإطعامَ القلوب والأرواح ما تغتذي به وتتقوَّتُ به من العلم والإيمان والمعرفة والذكر، وأنواع ذلك مما هو قوتٌ للقلوب، فإنه هو الذي يُقِيتُ القلوبَ بهذه الأغذية، وهو في نفسه عالمٌ لم يُعلِّمْه أحدٌ، هادٍ لم يَهدِه أحد، متصف بجميع صفات الكمال، قيوم لا يزول، ولا يُعطيه غيرُه شيئا من ذلك. فإذا قال: "وهو يُطعِم ولا يُطْعَم" تناولَ القسمين، وإذا قيل: "لا يَطْعَم" لم يكن المراد إلا الأكل والشرب، لم يكن المراد ذكره وعلمه وهدايته.

وحينئذٍ فيكون قوله "وهو يُطْعِم" لا يتناول إلاّ مأكولَ الجسد ومشروبَه، ومعلومٌ أنّ ذاك أشرف القسمين، فالقراءة التي تتناول القسمين أكمل من القراءة التي لا تتناول إلاّ أحدَهما.

بيان ذلك ما في الصحاح (١) من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما نهاهم عن الوِصال قالوا: إنك تُواصِل، قال: "إني لست كأحدكم، إني أَبِيتُ - ورُوي: أَظَلُّ - عند ربي يُطعِمني ويَسقيني". وأظهر القولين عند العلماء (٢) أن مرادَه ما يُطعِمه ويَسقِيه في باطنه، من غير أن يكون أكلاً وشربًا في الفم لوجهين.

أحدهما: أنه لو كان يُطعِمه ويَسقِيه من فمِه لم يكن مُواصِلاً، فإن المواصل هو من لا يأكل ولا يشرب، ولو قُدِّرَ أنه أُتِيَ بطعامٍ من الجنة فأكلَه، لكان آكلاً لا مُواصِلًا.


(١) البخاري (١٩٦٤) ومسلم (١١٠٥) من حديث عائشة. وفي الباب عن ابن عمر وأنس وغيرهما، انظر باب الوصال من كتاب الصوم عند البخاري، وباب النهي عن الوصال من كتاب الصيام عند مسلم.
(٢) انظر "فتح الباري" (٤/ ٢٠٨،٢٠٧)، ففيه الاحتجاج لكل قول ومناقشته.