للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يُولُّون عنه مُدبرِين"، وأنه لما خاطبَ أهلَ قليب بدرٍ قال (١): "ما أنتم بأسمَعَ لما أقول منهم". ولهذا أمر الزائر أن يُسَلِّم على الميت، ولولا أنه يسمع السلام لم يُؤمَر بالسلام عليه. وقد قال ابن عبد البر (٢): ثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ما من رجلٍ يَمُرُّ بقبرِ رجلٍ يعرفُه في الدنيا فيُسَلِّم عليه إلا ردَّ الله عليه روحَه حتى يَرُدَّ عليه السلامَ". لكن الإدراك لا يستلزم أن يكون مما يُؤجَر عليه ويُثَابُ عليه، وإن كان الميت يَتنعَّم ببعض ما يسمعه، كما يُعذَّب بالنياحة عليه. وليس تعذيبُه عِقابًا على النياحة، لأنها ليست من عمله، وإنما هي من جنس الآلام التي تَلْحَق العبدَ من غير عملِه، كشَمِّ الروائح الخبيثة وسَمْع الأصواتِ المنكرة ورؤية الأشياء المروِّعة. ولو كان هذا الاستماع مما يُؤجر عليه لكان الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين أحقَّ بعمل ذلك.

ولم يكونوا يجتمعون عند القبر لختم القرآن عنده، كما يفعل ذلك بعضُ المتأخرين، بل تنازع العلماء في القراءة عند القبر: فكرهَها أبو حنيفة ومالك وأحمد في أكثر الروايات عنه، ورخَّص فيها في الرواية الأخرى لما بلغَه عن ابن عمر أنه وصَّى أن يُقرأ عند دفنِه بفواتح البقرةِ وخواتمها. والرخصة إمّا مطلقًا وإمّا حالَ الدفنِ خاصةً، ولكن اتخاذ ذلك سنةً راتبةً لم يذهب إليه أحد من أئمة المسلمين.

فإذا كان هذا حال من يقرأ القرآن محتسبًا فكيف من يقرؤه بالكراء، فإن العلماء قد تنازعوا في جواز الاستئجار على تعليم القرآن والفقه والحديث والإمامة في الصلاة والأذان والحج عن الغير، فقيل: يجوز ذلك، كما هو في مذهب الشافعي ومالك قريب منه، وقيل: لا يجوز،


(١) البخاري (٣٩٧٦) ومسلم (٢٨٧٤، ٢٨٧٥) عن أبي طلحة.
(٢) في "الاستذكار" (١/ ٢٣٤). وقد سبق ذكر الحديث والكلام عليه.