للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقد بُسِط الكلام على هذا في غير هذا الموضع (١)، وذُكِر منشأ غلط الطائفتين حيث لم يُفرِّقوا بين النوع والعين، وذُكِر قول السلف والأئمة: إن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء، وإنه لا نهاية لكلمات الله، وإن وجود مالا نهاية له من كلمات الله في الماضي، كما ثبت في المستقبل وجود مالا نهاية له أيضًا، وإن كل ما سوى الله مخلوقٌ كائنٌ بعدَ أن لم يكن، وليس معه شيء قديم بقدمه، بل ذلك ممتنع عقلًا باطل شرعًا؛ فإن الله أخبر أنه خالق كل شيء. والقول بأن الخالق علَّة تامة أزلية مستلزمة لمعلولها باطلٌ عقلًا وشرعًا، وموجبةٌ أنه يمتنع ضرورة وجود علة تامة يقارنها حدوث شيء من العالم، فإن الحوادث بعد أن لم تكن يمتنع مقارنةُ معلولها بها، بل قد بُيِّن أن القول بأن الفاعل يكون علة تامة مستلزمة للمفعول باطلٌ، وأن الفعل لا يكون إلا بإحداث شيء. لكن فرق بين حدوث الشيء المعين وبين حدوث الحوادث شيئا بعد شيء.

وقد ثبت بالدلائل اليقينية أن الرب فاعل باختياره وقدرته، وأنه إذا قيل: هو موجب بالذات، فإن أريد بذلك أنه يوجب بمشيئته وقدرته ما شاءه= فهذا لا ينافي فعلَه بمشيئته وقدرته؛ وإن أريد بذلك ما يقوله دهرية الفلاسفة كابن سينا ونحوه من أن ذاتًا مجرَّدة عن الصفات أوجبت العالم بما فيه من الأمور المختلفة الحادثة= فهذا من أفسد الأقوال عقلًا وسمعًا، فإنّ إثباتَ ذاتٍ مجردةٍ عن الصفات أو إثباتَ وجودٍ مجردٍ عن جميع القيود أو مقيدٍ بالسلوب لا يختص بأمر وجودي مما لا يمكن تحقُّقه في الخارج، وإنما يقدِّره الذهن كما يقدِّر سائرَ


(١) انظر "شرح حديث عمران بن حصين" الذي سبق ذكره، وانظر "منهاج السنة" (١/ ٣٦٠ وما بعدها) و"درء التعارض" (٨/ ٢٨٧ - ٢٩٠).