ولهذا كان طائفة من العلماء مثل أبي البركات يُفتُون بلزوم الثلاث في حالٍ دونَ حالٍ، كما نُقِل عن الصحابة، وهذا إما لكونهم رأوه من باب التعزير الذي يجوز فعلُه بحسب الحاجة، كالزيادة على أربعين في الخمر، والنفي فيها وحلق الرأس؛ وإما لاختلاف اجتهادهم، فرأوه تارةً لازمًا، وتارةً غيرَ لازم.
وبالجملة فما شرَعَه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرعًا لازمًا دائمًا لا يمكن تغييره، فإنّه لا نسخَ بعد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولا يجوز أن يُظَنَّ بأحدٍ من علماء المسلمين أنه يَقصِد هذا، لاسيما الصحابة، لاسيما الخلفاء الراشدين.
وإنما يَظُنُّ مثلَ ذلك في الصحابةِ أهلُ الجهلِ والضلالةِ من الرافضة والخوارج، الذين يُكفِّرون بعضَ الخلفاء أو يُفسِّقونه. ولو قُدِّر أنَّ أحدًا فعلَ ذلك لم يُقِرَّه المسلمون على ذلك، فإنّ هذا إقرار على أعظم المنكرات، والأمة معصومة أن تجتمعَ على مثلِ ذلك. لكن يجوز أن يجتهد الحاكم والمفتي، فيصيب فيكون له أجران، ويُخطئ فيكون له أجرٌ واحد.
وما شرعه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرعًا معلَّقًا بسبب، إنما يكون مشروعًا عند وجودِ السبب، كإعطاء المؤلفةِ قلوبُهم، فإنه ثابت بالكتاب والسنة.
وبعض الناس ظنَّ أنّ هذا نُسِخَ (١)، لما روي عن عمر أنه ذكر أنّ الله أعزّ الإسلام وأهله، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وهذا الظن غلط، ولكن عمر استغنى في زمنه عن إعطاء المؤلَّفةِ قلوبُهم، فترك ذلك لعدمِ الحاجة إليه، لا لنسخِه. كما لو فُرِض أنه عُدِم في بعض الأوقات ابنُ السبيلِ أو الغارمُ.