لم يجدْ أحدًا متمسكًا بتوحيد الله وعبادتِه وحدَه لا شريك له إلاّ من كان متبعًا للأنبياء جملةً وتفصيلا، ومن أعرضَ عن الأنبياء فلابدَّ أن يُشرِك، حتى المنافقين من هذه الأمة لا يَجدُ من أعرضَ عن اتباع حقيقةِ الدين في الباطن إلاّ ولابدّ أن يُشرِك، إلاّ ما شاء الله. وأن اتباعَ الوحي لابُدَّ فيه من فِطرةٍ بها يعقل ويفقه، وأن الهدى متوقف على صلاح الفطرةِ والشِّرعةِ، فلذلك عَمَدَ الشيطانُ من بني آدم، فاجتالَهم تارةً عن الفطرة، وزيَّنَ لهم تارةً تحريف الشِّرعةِ، وغَرَّهُم عن الفطرةِ الصحيحة السليمة بالقياسِ الفاسدِ الذي قد يُسمُّونه معقولاً وإن لم يكن، وعن الوحي المنزلِ بالتحريف الذي يسمُّونه تأويلا وإن كان فاسدًا.
وذلك أنّ العلوم لبني آدم نوعان:
نوع يَختصُّ الله به من يشاء من عبادِه، كما يوحيه إلى الأنبياء.
ونوع مشترك، يُنَالُ بالتعاطي، كالعلوم النظرية الحسابِ ونحوِه.
وكلّ واحدٍ من المختصّ والمشترك منه ما يَحصُل في القلب بواسطةِ دليل، ومنه ما يَحصُل لا بواسطةِ دليل، كالعلوم المشتركة التي لا تقف على دليل كالبديهية والحسّيّة، والتي تفتقر إلى دليلٍ هي النظريَّة. والمختصة التي تقف على دليلٍ قد يكون دليلُها أيضًا مختصا، وقد لا يكون مختصًّا، وإنما دَرْكُ العلمِ به هو المختص.
وأما المختصة التي لا تَقِفُ على دليل فهو ما يُوحِيْهِ الله إلى قلبِ مَن يشاءُ من عبادِه بلا دليلٍ أصلاً، بل تكون للخاصَّة بمنزلة البديهية للعامَّة.