للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تحصل باللعب. فكان من اشتغل بما يحصِّل له قوتًا وكسبًا ونحو ذلك من المقاصد عندهم صاحب جِدٍّ وحَقٍّ، ليس بصاحب لعب وباطلٍ، فإن هذا يبقى ويدومُ وينفع أعَظم من ذاك؛ ومن كان عَنده أن الجاه والرئاسة والسلطان والملك أنفع وأبقى من المال، كان عنده من اشتغل بتحصيل المال وأعرضَ عن ذلك صاحبُ لعب وباطلٍ بالنسبة إلى مطلوبه ومقصودِه، فإن المال لا ينتفع به صاحبُه إلاّ إذا أخرجَه وأنفَقَه، فمنفعتُه في إذهابه، بخلاف الجاه، فإنه كلَّما قوي وحَصَل كان الانتفاع به أكثر، وصَاحبُه يُمكِنه أن يُحصل به من المال مالا يُمكِنُ صاحبَ المال أن يُحصِّل به من الجاه، فلهذا كان هذا أعقلَ وأكيسَ وأبعدَ عن اللعبِ والباطلِ من ذاك.

ثم إن صاحب الحق الذي قد عَلِمَ أن الدنيا لا تدوم، فلا يدوم للإنسان فيها لا جاهٌ ولا مالٌ، بل هذا وهذا يقول يوم القيامة: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (٢٩)} (١). وقد روى الترمذي وغيرُه (٢) عن كعب رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما ذِئبانِ جائعانِ أُرسِلا في غنمٍ بأفْسَدَ لها من حِرْصِ المرءِ على المال والشرف لدينه". [قال] الترمذي: حديث حسن صحيح. بيَّن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن حِرصَ المرءِ على المالِ والشرفِ والرئاسة يُفسِد الدينَ مثلَ أو أبلغَ من إفسادِ الذئبينِ الجائعينِ إذا أُرسِلا في زريبة غنم. وهذا الحرص صفة تقوم بالنفس، والدين هو الذي يبقى ويدوم نفعُه بعد الموتِ، فلو قُدِّر أن الإنسان طلبَ من


(١) سورة الحاقة: ٢٨ - ٢٩.
(٢) أخرجه الترمذي (٢٣٧٦) وأحمد (٣/ ٤٥٦،٤٦٠) والدارمي (٢٧٣٣). وللحافظ ابن رجب شرح عليه مطبوع. وانظر كلام المؤلف عليه في "مجموع الفتاوى" (١١/ ١٠٧ - ١٠٨، ٢٠/ ١٤٢ - ١٤٤، ٢٨/ ٣٩١ - ٣٩٢).