فإن قيل: إنما جمعَ لأنه بمنزلة المسافر الذي لا ينزل قبل الغروب، وكذلك المريض الذي لا يمكنه الوضوء إلا في أحد الوقتين، وصلاتُه في أحد الوقتين جمعًا بالوضوء خيرٌ من صلاته مفرقةً بالتيمم، كما ذكرنا في المستحاضة أن صلاتها بالاغتسال جمعًا خيرٌ من صلاتها بالوضوء في الوقت المختصّ، والواقف بعرفةَ صلاتُه العصرَ جمعًا مع الظهر لإتمام الوقوف خيرٌ من فعلها في وقتها مع نقصه. وهذا الذي فَعَلَه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفةَ أصل عظيم في هذا الباب، فإنه ليس الجمع هنا لحاجةٍ ولا تحصيلِ واجب ولا مشكوك في وجوبه، بل لتحصيل مستحبّ، وهو كمالُ الوقوف، فدلَّ على أن الجمع جائز حيث تكون المصلحة الشرعية معه أكملَ من المصلحة الشرعية مع التفريق، بحيث كانت العبادة مع الجمع أكملَ في الشرع من التفريق فالجمع أولى، لأنه حين وقفَ يُريد أن يُفِيضَ بعد الغروب إلى مزدلفةَ كان كما رُوي عنه أنه كان إذا ارتحلَ بعد أن تَزِيْغَ الشمسُ قدَّمَ العصرَ إلى الظهر، فصلَاّهما جمعًا.
قيل: إن كان جمعُه كذلك دلَّ على جواز الجمع لمثل هذا مع إمكان النزول، فإنه لو نزل قبل الغروب لم يكن عليه في ذلك مشقة عظيمة. فإذا جاز الجمعُ لمواصلة السَّيْر فالجمعُ لتكميل العبادات الشرعية أولى، ولم يكن جمعُه لمجرد السفر، فإنه لم يَجْمَعْ في حجته إلا بعرفةَ والمزدلفة، وقد كان يصلِّي قصرًا بلا جَمْع، ولم يقل أحد قَطُّ أنه جمعَ بمنًى ولا صلَّى أربعًا، بل كلُّهم متفقون على أنَّه قَصَرَ ولم