للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وهذا معنى قول بعض السلف (١): طلبنا العلم لغير الله فأبي أن يكون إلا لله. وقول الآخر لما قيل له: إنهم يطلبون الحديث بغير نيَّة، فقال: طلبهم له نيَّة، يعنى نفس طلبه حسن ينفعهم. وهذا قيل في العلم لخصوصيته، لأن العلم هو الدليل المرشد، فإذا طلبه بالمحبة وحصَّله عرَّفه الإخلاصَ لله والعملَ له.

ولهذا قال من قال: هو من النظر الأول الذي هو مُقدمة العِرفان، فإن القصد والنية مشروط بمعرفة المقصود المنوي به، فإذا لم يعرفه بعدُ كيف يتقرب إليه؟ فإذا نظر بمحبة أو غيرها فعلم المعبود المقصود صح حينئذ أن يعبده ويقصده. وكذلك الإخلاص كيف يخلص من لم يعرف الإخلاص؟ فلو كان طلب علم الإخلاص لا يكون إلا بالإخلاص لزم الدَّوْر، فإن العلم هو قبل القصد والإرادة من إخلاص وغيره، ولا تقع الإرادة والقصد حتى يحصل العلم.

وعلى هذا فما ذكره الإمام أحمد عن نفسه هو حسن، وهو حال النفوس المحمودة المستقيمِ حالُها. ومن هذا قول خديجة رضي الله عنها للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنك لتَصلُ الرحمَ وتَصْدُقُ الحديثَ وتَقْرِيْ الضيفَ وتَحمِلُ الكلَّ وتكسِبُ المعدومَ وتُعِينُ على نوائب الحق.

فهذه الأمور كان يفعلها محبة لها، خُلق على ذلك وفُطر عليه، فعلمت أن النفوس المطبوعة على محبة الأمور المحمودة وفعلها لا يوقعها الله فيما يضاد ذلك من الأمور المذمومة، لما قال لها: "قد خشيتُ


(١) رُوي ذلك عن معمر وغيره، انظر: "جامع بيان العلم" (١/ ٧٤٨ وما بعدها) و"الجامع" للخطيب (٧٧٥).