ثم الكلام هنا في فصلين: الواقع الموجود، والواجب المقصود.
أما الأول: فكلُّ حيٍّ يتحرك بإرادته واختياره فلا بد أن يكون له في ذلك العمل مطلوب مَّا، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنّ أصدقَ الأسماء الحارثُ وهمَّام"(١)، فالحارث: الكاسب العامل، والهمام: صاحب الهمّ الذي يكون له إرادة وقصد. وقد بينتُ فيما تقدم أن طلبَ المخلوقِ لا بدَّ أن يتعلق بغيره، فكما أنه لا يكون فاعلَ نفسه، لا يكون مطلوبَ نفسه، وبينتُ أن المخلوق كما لا يكون فاعلاً، لا يكون مطلوبًا، فليس المطلوب الحقيقي إلا الله، ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا.
والغرض هنا أن المخلوق لا بدَّ له في كل عمل من مطلوب ومرادٍ، وحظ ونصيب، لا يمكن غير ذلك، فاعتقاد وجود اختياري بلا مراد محالٌ، سواءً كاًن من الملائكة أو النبيين أو الصدِّيقين أو الشهداء أو الصالحين أو الجن أو الشياطين أو الكفار والمنافقين، فما نسمعه من الكلمات المأثورة عن بعض المشايخ مما ينافي هذا فأحد الأمرين
(١) أخرجه أحمد (٤/ ٣٤٥) والبخاري في الأدب المفرد (٨١٤) وأبو داود (٤٩٥٠) من حديث أبي وهب الجشمي، وفي إسناده علة بيَّنها ابن أبي حاتم في "العلل" (٢/ ٣١٢،٣١٣)، مفادها أن أبا وهب هو الكلاعي التابعيّ لا الجشمي الصحابي، وعلى هذا فالحديث مرسل. وأخرجه ابن وهب في "الجامع" (ص ٧) عن عبد الوهاب بن بخت مرسلاً، ورواه أيضاً عن عبد الله بن عامر اليحصبي مرسلاً. وصححه الألباني في الصحيحة (١٠٤٠) بمجموع هذه الطرق.