للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مع من يَحفِرن؟ " قلن: لا، قال: "هل تُدلِيْن مع من يُدْلِي؟ " قلن: لا، قال: "فارجعنَ مأزورات غيرَ مأجورات، فإنكن تَفتِنَّ الحيَّ وتُؤذِينَ الميتَ". ومعنى قوله: "تُؤذِينَ الميت" أي بالنياحة، فإنه قد ثبتَ عنه في الصحيح أنه قال: "مَن نِيْحَ عليه يُعذَّبُ بما نِيْحَ عليه".

وقد بسطنا الكلام على هذا الحديث في غير هذا الموضع (١)، وبيَّنّا أن ما يَحصُل للألم بنياحة الحيِّ ليس عقوبة له على ذنب غيره، بل النائحةُ تُعاقَب على نياحتها، كما ثبت في صحيح مَسلم (٢) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إن النائحةَ إذا لم تَتُبْ قبل موتها فإنها تُلبَسُ يومَ القيامة دِرْعًا من جَرَب وسِربالاً من قَطِران".

فالميت ما يَحملُ وِزْرَ النائحة، بل يَحصُل له بنياحتها من الألم الذي يتعذب به ما أخبر به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليس كلُّ ألم يَحصُل للإنسان بسبب من الأسباب يكون عقوبةً عليه، وفي الصحيحين (٣) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ليس منا من لَطَمَ الخدودَ وشقَّ الجيوبَ ودعا بدعوى الجاهليةِ". فقد تَبرَّأ ممن لَطَم الخدود وشقَّ الجيوب، والجيبُ هو طوقُ الثوب، كما يَفعَلُه بعضُ المُصَابين حين يَشُق ثيابَه. والدعاء بدعوى الجاهلية مثل أن يقول: يا رُكْنَاه! يا عضداه! يا ناصراه!

ونحو ذلك، وهذا هو الندب، لأنه يَندُب الميتَ، أي يدعوه، والميت لا يُجيب دعاءَه، ولا منفعةَ في هذا الندب لا للحيّ وللميت،


(١) انظر مجموع الفتاوى (٢٤/ ٣٦٩ - ٣٧٢).
(٢) برقم (٩٣٤) عن أبي مالك الأشعري.
(٣) البخاري (١٢٩٧، ١٢٩٨، ١٢٩٤، ٣٥١٩) ومسلم (١٠٣) عن ابن مسعود.