ثمَّ مَن تمسكَ ببعضِ شُعَب الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة ولم يُوافِقْهم على أصلِ بدعتِهم وَلا دَعَا إلى مذهبهم كثيرٌ من المتقدمين، وهم جمهور من روى عنه أصحاب الصحيح ممن يُنسَب إلى بعض هؤلاء المخطئين. فقام يَرُدُّ هذه البدعةَ بقايا الصحابة العالمين، كابن عمر وابن عباس وجابر وأبي سعيد ونحوهم من الغُرِّ الميامين.
ثم لمَّا فرغَ الشيطان من المؤمنين ببدعتين رفعًا وخَفْضًا، ومن الدين ببدعتين إبرامًا ونقضًا، شَرَعَ في ربّ العالمين، فحَدَثَتْ بدعتا الجهمية في أواخر عصر التابعين: هؤلاء ينفون عنه ما جاءت به الرسلُ من الصفات، كأنه عندهم من الأمور المعدومات، مضاهاةً لضُلَاّل الصابئين. ثم كثير منهم أو أكثرهم إن اضطُرَّ إلى إثباتِه جعلَه لآخر شاملاً لمخلوقاتِه شمولَ الكلِّ لأجزائِه شائعًا، حتّى قد خصّهم بالبحر وأمواجه في مصنوعاته مشاع الجنس المطلق في أفراده (١)، وجعلوه الوجود المطلق الذي لا يوصف بتغييره في مُعيَّنين، وبعضهم يجعله ساريًا في المحدثات بحيث لا يبقى له عندهم حقيقة خارجية من الأرض والسماوات. تعالى الله عن افتراء الظالمين.
فشاركوا النصارى في الحلول والاتحاد، وزادوا عليهم بعموم الحلول والاتحاد في الموجودين. ثم ضربُوا للكتب الإلهية أنواع التحريف والتبديل وأصنافَ المجاز والتأويل، ولا أبقوا العقول كما فطرت عليه من المعقولات وما أتى إليها من المسموعات، تارةً بدعوى النظر الثاقب للنُّظَّار، وتارةً بدعوى الوجد الصادق للعابدين.