للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والثاني: أنها بمعنى هلَّا. قاله أبو عبيدة (١)، وابن قتيبة (٢)، والزجاج. قال الزجاج (٣): المعنى: فهلَّا كانت قرية آمنتْ في وقتٍ ينفعها إيمانُها إلا قوم يونس. و {إِلَّا} ههنا استثناء ليس من الأول، كأنه قال: لكن قوم يونس.

وقال الفراء (٤): نصب القوم على الانقطاع مما قبله، ألا ترى أن ما بعد {إِلَّا} في الجحد يتبع ما قبلها. تقول: ما قام أحدٌ إلَّا أخوك، فإذا قلتَ: ما فيها أحدٌ إلا كلبًا أو حمارًا نصبْتَ؛ لانقطاعهم من الجنس. كذلك كان قوم يونس منقطعين من غيرهم من أمم الأنبياء، ولو كان الاستثناء وقعَ على طائفة منهم لكان رفعًا (٥).

قلت: هذا قول أئمة العربية، وهذا مما يُعلَم بالاضطرار من لغة العرب التي بها نزل القرآنُ. {وَلَوْلَا} تارةً يليها الاسم، كقوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ}، فيكون حرف امتناع. وتارةً يليها الفعل، كقوله: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}. فيكون حرفَ تحضيضٍ، وهو يتضمن النفي. فالنفي لازمٌ لها، لا أنها بمعنى «لم تكن».

والمفسرون من السلف يُفسِّرون المعنى، لا يتكلمون في دلالة العربية؛ لأن العربية عادتهم وطبعُهم، لا يحتاجون فيها إلى مقاييس النحاة. وابن عباس ذكر أن الآية دلَّتْ على أنه لم تكن أمةٌ آمنتْ فنفعَها إيمانُها إلَّا قوم يونس. وهذا حق، والاستثناء المنقطع يدل عليه. لم يقل: إنها بمعنى: لم تكن. وكذا قتادة ظنَّ أن المراد أن الإيمان نفعَهم ولم ينفع غيرَهم. وليس كذلك، بل غيرهم لم يؤمن إيمانًا ينفعه، وهؤلاء آمنوا إيمانًا ينفعهم، كانوا صادقين وآمنوا قبل حضور الموت، وغيرهم


(١) مجاز القرآن (١/ ٢٨٤).
(٢) تفسير غريب القرآن (ص ٢٠٠).
(٣) معاني القرآن (٣/ ٣٤).
(٤) معاني القرآن (١/ ٤٧٩).
(٥) إلى هنا انتهى النقل عن زاد المسير.