للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وزعمَ فريقٌ من المتفلسفة أنَّ علومَ الأنبياء المختصة لابدَّ لها من وسطٍ، وإنما خاصَّتُهم دَرْكُ وَسَطٍ لا يُدرِكُه غيرُهم، وأنّ الحَدْسَ هو دَرْكُ الوسط، ثم الانتقال منه إلى المطلوب، بخلاف التفكُّر فإنه تصوُّرُ المطلوبِ أولاً ثم طلبُ الوسط.

وهؤلاء بَنَوا هذا على أصلهم الفاسد في أن النبوةَ كمالٌ علميّ وعملي مِن جنسِ كمالِ النوع المكتَسَب، لكنَّه أرفعُ درجاتِه، وأن النبوةَ ليست خارجةً على القوى المعتادة، ولاهي تنزيلاً خاصًّا من عندِ الله إلى من يختصُّه بمشيئتِه. ولم يعلموا أن لا مانعَ من أن يكون للنبي علم بديهيّ مختص لا يَقِفُ على دليل أصلاً، بل هذا يكون لغيرِ النبي ككثيرٍ من الأولياء، فكيفَ بما يُكلَم الله به النبيَّ أو يَنزِلُ به إليه الملكُ؟

ثمَّ هؤلاء يَزعمون انحصارَ العلم في القياس، ولعَمري إنّ القياسَ لَطريق صحيح إذا استُعمل على وجهِه، لكن لم تَنحصِرْ طرقُ العلم فيه، فوقَعَ عليهم من استعمالِه حيث لا يَمشي ومن نَفْي ما سواه وهو الحق (١).

ثمَّ إن كثيرًا من متكلمي أمتِنا وغيرهم من أتباع الأنبياء أقرُّوا بطريق القياس، لكن شركوهم في القياس الفاسد، فصار القياسُ طريقًا لهم في كثيرٍ من العلم الإلهي، وضَعُفَ عِلْمُهم وإيمانُهم بآثار المرسلين، فقابلوها إمّا بالردِّ والتكذيب، وإمّا بالتحريف والتأويل،


(١) كذا في الأصل، وفي العبارة غموض.