البراءةَ من الآباء والأبناءِ والأقارب، ونَبْذَ أهاليهم وراءَ ظهورِهم، وبَذْلَ أموالهم، وخَفْض الجناح لهم، والائتمار لأمورهم، والجَرْي تحتَ أحكامِهم. وكلُّ هذه الأحوال مما يَنْفِرُ عنها البشرُ وتَفِرُّ وتَمَل من تكلفهم، فلولا أنهم صادقون فيما ادَّعَوه، وصحَّحوا دعواهم بمعجزاتٍ ظاهرةٍ وبراهينَ بيّنةٍ تُخرِج ذلك عن حِيَلِ المحتالين ومَخْرَقةِ الممخرقين، لما كان يُوجِبُ ظاهرُ فِعْلِهم قبولَه.
ولو كان الخلق مُكرَهين في حياةِ واحدٍ منهم لنفاذِ أمرِه وقوته وغلبتِه لكانوا من بعد موته ومفارقتِه هذا العالمَ يرجعون إلى ما شاءوا عليه، كما يرجع الملوك في الدنيا. فلما وجدنا الخلقَ جيلاً بعدَ جيلٍ وقرنًا بعد قرنٍ يزدادُوْنَ في كل يومٍ لهم محبةً وطاعةً ووُلوعًا بهم وجَزَعًا على ما فاتَهم منهم من الرؤية والصحبة= دلَّ ذلك على أنهم كانوا أنبياءَ من قِبَلِ الله، صَحَّحوا دعواهم بمعجزاتٍ ظاهرة، وبراهينَ باهرةٍ نَيِّرةٍ، وأخذوا قلوبَ الخَلْق -العالمِ والجاهلِ- بذلك.
قال: فإن قال قائل: قد وجدنا من المفترين المدَّعين قد ظهروا في العالم، وصار لهم أتباع مثلُ أتباعِ الأنبياء، قلنا لهم: مَن هم؟
فلا يَتهيَّأ أن يُسَمُّوا أحدًا له تبع ورَسْم قائم غيرَ زَردَشت ومَزْدَك ومَانِيْ وبَهَافَرِيْد.
قلنا له: زردشت ومَزْدك وبَهَافَرِيْد فإن ثلاثتهم ادَّعَوا في زَمَانِهم أنَ كلَّ واحد في زمانِه هو المستقيم على دين إبراهيم، ولم يَدع واحد منهم خلافًا عليه أي على إبراهيم. فبِرِيْحِه والانتسابِ إليهَ اجتمعَ له الأتباعُ والأصحابُ، لا بسياستِهم وسلطانهم، وإنهم لم يشرعوا دينًا، بل ادعَى كلُّ واحدٍ منهم في زمانِه أن شريعةَ إبراهيمَ