واعلم أنه كما يُعقَل امتناع الدور في العلل الفاعلة التي هي الأسباب، والغائية التي هي الحكم والمقاصد، من اثنين، فكذلك يُعقَل امتناع الدور فيهما من واحد، وذلك أن الفاعل الواحد قد يفعل. الشيء بسبب آخر، كما يخلق الله سبحانه النبات بالمطر، والمطر بالسحاب، وكما يخلق الولد بالوالدين، وكما يخلق سبحانه الشيء لحكمة وهي عامة مقصودة ... (١) فيمتنع أن يكون كل من الشيئين سببًا للآخر، ويمتنع أن يكون كل من الشيئين حكمةً وغايةً للآخر. ولا يمتنع أن يكونا جميعًا عن سبب واحد غيرهما، ولا أن يكونا جميعًا لحكمة واحدة غيرهما، ولا أن يكون أحدهما شرطًا للآخر بحيث لا يكون هذا السبب إلا مع ذلك السبب لا به، وأن تكون هذه الحكمة والغاية مع تلك لا لأجلها.
فليتدبر اللبيب هذه الحقائق، ينتفع بها في معرفة أن الله هو إله كل شيء، وأن جميع المخلوقات غايته له، مُسبِّحةٌ بحمده، قانتةٌ له، وأن الحركات الموجودة في العلو والسفل إنما أصلها عبادة الله وقصده. كما دلّ القرآن على ذلك في غير موضع، وهذا شيء آخر غير كونها مربوبة له ومقدورة ومقهورة، وغير ذلك من معاني ربوبيته وقدرته التي هي منتهى نظر أكثر المتكلمين والمتفلسفة، حتى يظنوا أن هذا هو تسبيحها، وأن دلالتها على وجود الرب وقدرته هو تسبيحها بلسان الحال فقط، وإن كان ما أثبتوه حقاً، فليس الأمر كما زعموه، بل على ما أخبرت به الرسل ودلت عليه، كما نطقت به الكتب الإلهية، ودلت