للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رأى بعضَ من زار الطُّورَ -الطور الذي كلم الله عليه موسى- نهاهُ عن ذلك، وقال له: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تُشَدُّ الرحَالُ إلاّ إلى ثلاثة مساجد".

فهذا يُبين أن الصحابة فهموا أنه نهى عن السفر لزيارة جميع البقاع إلا المساجد الثلاثة، سواء كانت تلك البقعة فيها آثارُ الأنبياء أو غير الأنبياء، وهذا هو الذي اتفق عليه أئمةُ العلماء، فإنهم لم يتنازعوا أنه لو نذرَ السفرَ إلى بُقْعةٍ بعينها غيرِ المساجد الثلاثة لم يجب الوفاءُ بنذره، ولو كان ذلك طاعةً عندهم لوجبَ الوفاءُ به، واتفَقوا على أن نذرَ الإتيانِ في المسجد الحرام يجبُ الوفاءُ به، وتنازعوا في مَن نَذر إتيانَ مسجدِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسجد الأقصى، فقال أبو حنيفة: لا يجبُ الوفاءُ بذلك، لأنّ من أصلِه أنه لا يَجِبُ بالنذر إلَاّ ما كان من جنسِه واجبًا بالشرع، وقال مالك والشافعي وأحمد: بل يجب الوفاءُ بذلك، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من نذر أن يُطيعَ الله فليُطِعْه" (١)، وهذا طاعةٌ لله بالاتفاق، فيُستحب الوفاءُ به.

فإذا عُلِمَ أنَّ غيرَ المساجدِ الثلاثة لم يَقُولوا بوجوب الوفاء إذا نذر السفر إليه، عُلِمَ أن ذلك ليس بطاعةٍ، حتى مسجد قُباء، قالوا: من قَصَدَه إذا أتى المدينةَ فحسنٌ، وأما شدُّ الرحْلِ له فلا، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من تطهر في بيته فأحسنَ الطهور، ثم أتى مسجد قباءَ لا يُرِيد إلاّ الصلاةَ فيه كان له كأجر عمرة" (٢). فإذا رَغبَ في إتيانِ من


(١) سبق تخريجه.
(٢) أخرجه أحمد (٣/ ٤٨٧) والنسائي (٢/ ٣٧) وابن ماجه (١٤١٢) عن سهل ابن حنيف.