للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مقصودٌ آخر كان وجوده ثم عدمه بمنزلة عدم وجوده، إذ قد بينا أن العدم لا يكون مقصودَا، وعِلْمُ القاصدِ بأن هذا يُعدَم بعد وجوده يمنعه أن يكون هو المقصود بالقصد الأول له، لأنه إذا علم أنه سيعدم، علم أنه حالَ عدمِه لا يكون فيه ما يقصده، بل يكون تلك الحال كحاله قبل وجوده، فلا يقصد أن يفعل ما يكون حاله بعد وجوده وعدمه كحاله قبل وجوده، إذ هذا أيضَا عبثٌ وسَفَهٌ، فكما أنه لا يقصد بالوجود العدم، فإذا علم أن الوجود يتعقبه العدم لم يقصده، إذ كان حاله بعد عدمه كحاله بعد وجوده، فإنه يكون قد قصد ما لا يفيد قصدُه فائدةَ، وإنما يقصد ذلك لأنه يحصل بوجوده مقصودٌ يبقى بعد عدمه، فإذا كان المقصود يحصل بعد عدمه أمكن أن يقصد وجوده وإن عدم، ويكون هذا الوجود مقصودَا بالقصد الثاني، والمقصود بالقصد الأول هو ما يبقى بعد العدم.

وهذا أمر بين يجده الإنسان ويعلمه بعقله وفطرته، ولهذا اتفق عقلاء الناس على أن الأمور المنقضية المنصرفة لا تكون هي غايةَ مقصودِ العامل ومنتهى مراده، لأنها إذا كانت منتهى قصده وإرادته كان حاله بعد عدمها كحاله قبل وجودها، وإنما يقصدونها ليستعينوا بها على أمور غيرها.

ثم إن الزهاد منهم يذمون المحبوبات والملذوذات المنصرفة وإن لم تكن نهايةَ المقصود، لما فيها من شَغْلِ النفوس بها عما تحتاج إليه، ومن أَلَمِ التركِ وغير ذلك، لكن الحال حال الكافرين بالمعاد، فإنه إذا لم يكن الموت ما يقصدونه ويرجونه كحال الذين لا يرجون لقاء الله، ويظن أحدهم أن لن يَحُور، فهم يجعلون المنصرفات نهايةَ مقصودهم،