للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والثالث: لا تكثِروا الحلف بالله وإن كنتم بارّين مصلحين، فإنّ كثرة الحلف ضربٌ من الجرأة عليه. هذا قولُ ابن زيد.

قلت: الحلفَ بالله كاذبًا لا يجوز مطلقًا، ولكن هذه الآية لم يقصد بها النهي عن الحلف الكاذب، وأما الإكثار من الحلف به مع الصدق فإنه ليس بمحرَّم، والآية تضمنت نهيًا يوجب التحريم، والحلفُ بالله تعظيمٌ له. وقد حلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مراتٍ متعددة، وأمر الله تعالى بالحلف في ثلاث مواضع، قال تعالى: (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ) (١)، وقال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) (٢)، وقال تعالى: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ) (٣).

وما يُروى عن الله تعالى أنه قال: "لا تحلفوا بي صادقين ولا كاذبين" كلامٌ لا إسنادَ له عن الله تعالى، ليس مما أنزله الله على محمد، ولا نُقِل عن نبي قبله بإسنادٍ يُعرَف. وطائفةٌ من النسّاك يستحبون أن لا يحلف أحدٌ قَط، وينهون عن ذلك، ولكن ليس هذا شرعَ الإسلام. كما أن طائفة يستحبون الصمت مطلقًا حتى عن الكلام الواجب والمستحب، وليس هذا من شرع الإسلام، بل قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت" (٤). فما كان واجبًا أو مستحبًّا فقوله خيرٌ من السكوت عنه، والسكوتُ عن الواجب


(١) سورة يونس: ٥٣.
(٢) سورة سبأ: ٣.
(٣) سورة التغابن: ٧.
(٤) أخرجه البخاري (٦٠١٨، ٦١٣٦، ٦١٣٨،٦٤٧٥) ومسلم (٤٧) من حديث أبي هريرة.