للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يأمرُه، ومُجَاز يُجازيه، وقد يَتعدّى فيتصرفُ فيما لا يملكه.

وأما كونُه يقول: حرَّمتُ على نفسي ماليسَ مقدورًا لي، كالجمع بين الضدَّين ونحو هذا، ولا يَقدِرُ أحدٌ على جزايته وعقوبته، بل يفعل ما يشاء، ويحكم ما يُريد، لا مُعقَّب لحكمِه، ولا رادَّ لأمرِه - فهذا مما يُعلَم يقينًا أن الرسولَ لم يَقصِدْ هذا، بل تحريم ماهو مقدور، كما قصدَ تحريمَ الظلم الذي يقدرون عليه.

وهو سبحانَه لا يَظلِمُ مثقالَ ذَرةٍ، (ولا يظلم ربك أحداً (٤٩)) (١)، ويقول لعبده إذا حاسَبَه يوم القيامة: لا ظلمَ عليك، فلا يَنْقُصُ أحدًا من حسناتِه شيئًا، ولا يَحمِلُ عليه سيئاتِ غيرِه، كما قال تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢)) (٢). قال غير واحدٍ من السلف: الظلم أن يَحمِل عليه سيئاتِ غيرِه، والهَضْمُ أن يَهْضِمَ من حسناتِه (٣). فهذا مما حرَّمَه على نفسِه وهو قادرٌ عليه، لكنه منزهٌ قُدُّوسٌ سَلامٌ، لا يجوز أن يَظلِمَ أحدًا، ولا يجوز أن يتخذ صاحبةً ولا ولدًا، بل هو حكيم عليمٌ رحيمٌ، لا يَفعلُ إلاّ بموجب رحمتِه وحكمتِه وعدلِه. وهو سبحانَه خالقُ كلَّ شيء وربُّه ومليكُه، ما شاءَ كانَ، ومالم يَشَأ لم يكن.

فكل واحد من قولِ القدرية المعتزلة [و] الجهمية الجبرية باطلٌ، والصواب فيما جاء به الكتابُ والسنة، وما كان عليه سلفُ الأمة وأئمتها.


(١) سورة الكهف: ٤٩.
(٢) سورة طه: ١١٢.
(٣) انظر: "زاد المسير" (٥/ ٣٢٤) والقرطبي (١١/ ٢٤٩).