وبالجملة فمن المستقر في فِطَرِ الناس أنَّ ما يُطْلَب لغيره فذلك الغير أشرف منه، وأن المقاصد أشرف من الوسائل.
ولهذا يقال: إن العالي لا يفعل لأجل السافل، وإذا كان كذلك، فكل ما يُقدر أنه هو المقصود المعبود لذاته دون الله تعالى، فإنه محتاج إلى ما يكون مقصودًا معبودًا لذاته، فإن الحي لا بد له من إرادة، ولا بد لكل إرادة من مراد لذاته، فإن المراد إما مراد لنفسه وإما مراد لغيره، واذا أريد لغيره فذلك الغير إما أن يكون مرادًا لنفسه أو لغيره، فإن كان ذلك الغير هو الأول لزم الدور القبلي، وان كان غيرًا آخر لزم التسلسل في العلل، وكلاهما ممتنع. وكل ما دل على أن كل محدَث فله محدِث، وكل ممكن فله واجب، وأن الممكنات المحدثات لا بد لها من قديم واجب بنفسه، قطعًا للدور القبلي والتسلسل في العلل، فإنه يدلّ على أن كل مريد فلا بد له من مراد، وكل متحرك بالإرادة فلا بد له من غاية، وأنه لا بد لجميع الإرادات والحركات الاختيارية من مراد لنفسه ينقطع به الدور القبلي في العلل، فإذن كل متحرك بالإرادة من المخلوقات، بل كل مريد فلا بد له من مراد لنفسه هي الغاية. والمراد لنفسه أكمل من المراد لغيره، فكل مريد من المخلوقات مفتقر إلى مراد لنفسه يكون أكمل منه، فلو كان شيء محبوبًا مرادًا لذاته لكان المحب له يحب محبوبه، لأن محبوب المحبوب محبوب، ومراد المراد مراد بطريق اللزوم. فإن استلزام الحب الأول للأول كاستلزام الحب الثاني للثاني، فكما أن المحبّ لا تتم مصلحته إلا بمحبوبه، فالمحبوب كذلك لا تتم مصلحته إلا بمحبوبه، ولا تتم مصلحة محبوبه إلا بحصول مصلحته، لأنه إذا فسد حال المحبوب فسد حال محبه، فإذا