للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قُدِّر أن من المخلوقات ما يحب لنفسه، وذلك مستلزم لمحبته محبوبه الذي هو أكمل منه، كان الاكمل محبوبًا مرادًا بطريق اللزوم والقصد الثاني، وكان الأنقص محبوبًا مرادًا بطريق الأصالة والقصد الأول. ومعلوم أن هذا فساد ينافي الصلاح، فإن الحب والإرادة إن لم يتعلق بالأشياء على ما تستحقه الأشياء، لزم حال الحب الفاسد.

وأيضًا فالفطرة السليمة تنافي ذلك، ولا يقع مثل هذا إلا عند فساد الفطرة وتغيرها. وإلا فمن كان تلذذُه بالماَكل الرديئة دون تلذذِه بالمآكل التي هي أطيب منها، دلّ على نوع فساد فيه، وذلك يستلزم الفساد، كما يحصل للمريض من تلذذه بالمآكل الرديئة الضارة دون الجيدة النافعة.

وكذلك القلوب فُطِرَتْ على الصحة، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كل مولود يولد على الفطرة" (١)، فهي مع السلامة لا تطمئن إلا بذكر الله، ولا تسكن إلا إليه، ولا تتألَّه إلا إياه، وافتقارها إلى معرفته وذكره وعبادته لا يشبهه شيء من الأشياء. فإذا قلنا: كافتقار الجائع إلى الطعام، والعطشان إلى الماء، والمغتلم إلى الجماع، كان ذلك كله تمثيلاً ناقصًا.

وكما أن هذه المفتقرات إلى هذه الأمور تفسد إذا لم يحصل ما يصلحها، ففساد النفوس إذا لم تعرف الله وتحبّه وتعبده أعظم بكثير كثير، وهذا حال كل من في السموات والأرض من الملائكة والجن


(١) أخرجه البخاري (١٣٥٨) ومسلم (٢٦٥٨) من حديث أبي هريرة.