وقد تكلمتُ على مسألة التحسين والتقبيح العقلي وعلى مسألة تنزيه الربّ عن الظلم في غير هذا الموضع بما يُوقِفُ مُريدَ الحق على حقيقة الأمر إن شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولم يكن الغرض هنا ذِكر هذا، وإنما بيَّنّا ذلك لاتصال الكلام به، لأنه بسبب كونِ الظلم في النفوس عامةً مستلزمًا لاحتراز المظلوم من الظلم، وكونِ الحق مستلزمًا لنفع المستحقِّ، ولم يَهتدِ أكثرهم إلى كونِ عبادةِ الله وحدَه حقاً له، وكونِ الشركِ ظلمًا في حقه.
ثم اضطربوا في وجه التكليف وجنسه، فزعمت المعتزلة ونحوهم ممن يتكلم في التعديل والتجويز (١) أن ذلك لما فيه من تعريض المكلَّف للنفع الذي لا يحصل بدونه، وكان هذا الكلام من اللغو بيَّن الناس بطلانه من وجوهٍ كثيرة. هذا مع أنهم يُوجِبون شُكره بدون التكليف الشرعي، وهذا تناقضٌ بيِّن.
وقال آخرون من المنتسبين إلى السنة: إن ذلك محض المشيئة وصدق الإرادة، وهذا الإطلاق غالب على أهل السنة الظاهرين من فقهاء أهل السنة ومتكلميهم، ومعلومٌ أن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لكن لا ينكر العاقل ما في خلقه وأمره من أنواع الحكمة والمصالح لخلقه، بل إخلاء الوجود من الوجوه التي فيها المناسبة لأحكامها من الظلم، فقد سلمت الشريعة لبابها وحرر الفقه في الدين صاحبه، ولم يفهم المعارض كون السنة التي سنَّها الرسول هي
(١) في هامش الأصل: "أي يقولون هذا يُجوِّز هذا، وهذا يَجُوز أن يكون ويجوز أن [لا] يكون ". ولعل الأرجح: "التجوير" من الجور، انظر (ص ٥٠).