للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وحضره طائفة من المشايخ، لكن كان من الذين حضره من رجعوا عنه وتابوا منه، وأما الجُنيد فلم يَنقل أحدٌ قط أنه رقص في السماع ولا حضر سماع دفوف وشبابات، بل قد قيل: إنه حضر التغبير في أول عمره، ولم يكن يقوم فيه، وأنه في آخر عمره تركه. وكان يقول: من تكلّف السماع فُتِنَ به، ومن صادفه استراح به. يعني: أنه يسمع آيات تناسب حاله من محبة أو حزن أو خوف، وما سمعه الإنسان بغير اقتصاد منه فهذا لا يدخل تحت الأمر والنهي، كنظر الفجأة، وشم الرائحة بغير اشتمام، ولهذا لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عمر أن يسدّ أذنه لما سمع زمَّارة راع (١)، وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قام بسدِّ أذنيه، فإن السدَّ لم يكن واجبًا إذ ذاك؛ لأنه سماع لا استماع، وإنما فعل ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - بطريق الاستحباب، هذا على قول من يُثْبت الحديث، فإنَّ مِن أهل الحديث من قال: هو منكر كأبي داود وغيره.

والكلام في مسألة السماع كثيرٌ منتشر، وقد كُتب فيه في غير هذا الموضع مما لا يتسع هذا الموضع لإعادته (٢)، وذُكِر فيه الكلام على من حضره منَّا ومن أهل الخير والدين والصدق، وأن لهم في ذلك من التأويلات ما لأمثالهم، فإنَّ المجتهدَ المخطئ يغفر الله له خطأه، ويثيبه


(١) أخرجه أحمد (٤٥٣٥)، وأبو داود (٤٩٢٤)، وابن حبان (٦٩٣) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(٢) انظر «مجموع الفتاوى»: (١١/ ٥٥٧ ــ وما بعدها)، و «الاستقامة»: (١/ ٢١٦ ــ ٤٢١)، و «مسألة السماع» لابن القيم.