للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن أَراد الصدقة بماله كله، وله عائلة، لهم كفاية، أو يكفيهم بمكسبه، فله ذلك (١) لقصة الصديق (٢) وكذا لو كان وحده، ويعلم من نفسه حسن التوكل، والصبر عن المسأَلة، وإلا حرم (٣) .


(١) قال في الإنصاف: بلا نزاع. لقوله تعالى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} وقوله «أفضل الصدقة جهد المقل» رواه أبو داود، وخبر «سبق درهم ألف درهم» لدلالة المقل على الثقة بالله، والزهد في الدنيا، فصدقته أفضل الصدقة.
(٢) وهي أنه جاء بجميع ماله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «ما أبقيت لأهلك؟» فقال: الله ورسوله. وكان تاجرًا، ذا مكسب، وظاهر عبارته الإباحة فقط، وقصة الصديق تقتضي الاستحباب.
(٣) أي وكذا من أراد الصدقة بماله كله، ولا عيال له، ويعلم من نفسه حسن التوكل، يعني الثقة بما عند الله، واليأس مما في أيدي الناس، والصبر عن المسألة مما في أيديهم، استحب له ذلك، وقال القاضي: جوزه جمهور العلماء، وأئمة الأمصار، وقوله {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} وخبر «خير الصدقة جهد المقل» وقصة الصديق، وغير ذلك، يدل على الأفضلية، مع قوة اليقين، وكمال الإيمان، وإن لم يعلم من نفسه حسن التوكل، والصبر على الضيق، أو مما لا عادة له به، حرم عليه ذلك، ويمنع منه، ويحجر عليه، لتبذيره، ويقويه خبر جابر: أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة من ذهب،
وقال: خذها، ما أملك غيرها. فحذفه بها.
وقال «يأتي أحدكم بما يملك، فيقول: هذه صدقة، ثم يقعد يتكفف الناس، خير الصدقة ما كان عن ظهر عنى» ولا ريب أنه يختلف باختلاف أحوال الناس، في الصبر على الفاقة والشدة، والاكتفاء بأقل الكفاية، وقال ابن عقيل: أقسم بالله لو عبس الزمان في وجهك مرة، لعبس في وجه أهلك وجيرانك، ثم حث على إمساك المال.
وقال ابن الجوزي: الأولى أن يدخر لحاجة تعرض، وأنه قد يتفق له مرفق، فيخرج ما في يده، فينقطع مرفقه، فيلاقي من الضراء، ومن الذل، ما يكون الموت دونه، فلا ينبغي لعاقل أن يعمل بمقتضى الحال، بل يصور كل ما يجوز وقوعه، وأكثر الناس لا ينظر في العواقب، وقد تزهد خلق كثير، فأخرجوا ما بأيديهم، ثم احتاجوا، فدخلوا في مكروهات، والحازم من يحفظ ما في يده، والإمساك في حق الكريم جهاد، كما أن إخراج ما في يد البخيل جهاد.
وقال غير واحد: نحن في زمان من احتاج فيه فأول ما يبذل دينه، والحازم يحفظ ما في يده، وإذا صدقت نية العبد وقصده، رزقه الله، وحفظه، من الذل، ودخل في قوله {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} .
(تتمة)
وفي المال حقوق سوى الزكاة، نحو مواساة قرابة، وصلة إخوان، وإعطاء سائل، وإعارة محتاج لنحو دلو أو ركوب ظهر، أو إطراق فحل، أو سقي منقطع، أو من حضر حلاب نعم، وهو قول جماعة من أهل العلم، وقال شيخ الإسلام: وإعطاء السائل فرض كفاية إن صدق، ولهذا جاء في الحديث «لو صدق لما أفلح من رده» واستدل أحمد بهذا الحديث، وأجاب بأن السائل إذا قال: أنا جائع. وظهر صدقه، وجب إعطاؤه، وهذا من تأويل قوله {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} وإن ظهر كذبهم، لم يجب إعطاؤهم، ولو سألوا مطلقًا، لغير معين، لم يجب إعطاؤهم. اهـ.
وقال القرطبي: اتفق العلماء على أنه إذا نزل بالمسلمين حاجة، بعد أداء الزكاة، فإنه يجب صرف المال إليها، وقال مالك: يجب على الناس فداء أسراهم، وإن استغرق ذلك أموالهم. وحكاه غير واحد إجماعًا.
وفي الإقناع وغيره: وإطعام الجائع ونحوه واجب إجماعًا، مع أنه ليس في المال حق واجب سوى الزكاة وفاقًا، وقوله {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} هي الزكاة عند الجمهور، وما جاء غير ذلك حمل على الندب، ومكارم الأخلاق، لا راتبًا، وما يعرض لجائع وعار ونحوهما، فيجب عند وجود سببه.

<<  <  ج: ص:  >  >>