للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

غير إحْليله) فلو قطر فيه، أو غيب فيه شيئًا، فوصل إلى المثانة، لم يبطل صومه (١) .


(١) لعدم المنفذ، وإنما يخرج البول رشحًا، كمداواة جرح عميق، لم يصل إلى جوفه، والإحليل مخرج البول من ذكر الإنسان، «وقطر» بتخفيف الطاء، قال الجوهري: قطر الماء وغيره يقطر، وقطرته أنا، يتعدى ولا يتعدى، «والمثانة» الموضع الذي يجتمع فيه البول، قال شيخ الإسلام، الإمام العادل، فارس المعقول والمنقول، أبو العباس، قدس الله روحه: وأما الكحل، والحقنة، وما يقطر في إحليله، ومداواة المأمومة، والجائفة، فمما تنازع الناس فيه، فمنهم من لم يفطر بشيء من ذلك، ومنهم من فطر بشيء دون شيء، والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك، فإن الصيام من دين المسلمين، الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام، ويفسد الصوم بها، لكان هذا مما يجب على الرسول صلى الله عليه وسلم بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة، وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثًا صحيحًا، ولا ضعيفًا، ولا مسندًا، ولا مرسلاً، علم أنه صلى الله عليه وسلم لم يذكر شيئًا من ذلك، والحديث المروي في الكحل ضعيف، وقد عورض بحديث ضعيف، وقال الترمذي: لا يصح فيه شيء.
والذين قالوا: إن هذه الأمور تفطر. لم يكن معهم حجة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكروا ذلك بما رأوه من القياس، وأقوى ما احتجوا به قوله «وبالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائمًا» قالوا: فدل ذلك على أن كل ما وصل إلى الدماغ يفطر الصائم إذا كان بفعله، وعلى القياس كل ما وصل إلى جوفه بفعله، ومن حقنة وغيرها، وإذا كان عمدتهم هذه الأقيسة ونحوها، لم يجز إفساد الصوم بهذه الأقيسة، لوجوه.
«أحدها» أن القياس، وإن كان حجة، فالأحكام الشرعية، بينتها النصوص،
فإذا علمنا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحرم الشيء، ولم يوجبه، علمنا أنه ليس بحرام، ولا واجب، ونحن نعلم أنه ليس في الكتاب، ولا في السنة، ما يدل على الإفطار بهذه.
«الثاني» أن الأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لا بد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم، بيانًا عامًا، ولا بد أن تنقله الأمة، فإذا انتفى هذا علمنا أن هذا ليس من دينه، ولو كان مما يفطر لبينه، كما بين الإفطار بغيره، فلما لم يبين ذلك، علمنا أنه من جنس الطيب، والبخور، والدهن؛ والبخور قد يتصاعد إلى الدماغ، والدهن يشربه البدن، ويدخل إلى الجوف، ويتقوى به البدن، وكذلك يتقوى بالطيب، فلما لم ينه الصائم عن ذلك، دل على جوازه، وقد كان المسلمون في عهده يجرح أحدهم مأمومة، وجائفة؛ فلو كان يفطر لبينه لهم، فلما لم ينه عنه، علم أنه لم يجعله مفطرًا.
«الثالث» إثبات التفطير بالقياس، يحتاج إلى أن يكون صحيحًا، وليس في الأدلة ما يقتضي: أن المفطر الذي جعله الله ورسوله مفطرًا، هو ما كان واصلاً إلى دماغ، أو بدن، أو ما كان داخلاً من منفذ، أو واصلاً إلى الجوف، ونحو ذلك، من المعاني التي يجعلها أصحاب هذه الأقاويل هي مناط الحكم عند الله ورسوله، ويقولون: إن الله ورسوله إنما جعل الطعام والشراب مفطرًا لهذا المعنى المشترك، من الطعام والشراب، ومما يصل إلى الدماغ والجوف، من دواء المأمومة والجائفة، وما يصل إلى الجوف من الكحل، ومن الحقنة، والقتطير في الإحليل، ونحو ذلك، وإذا لم يكن على تعليق الله ورسوله للحكم بهذا الوصف دليل، كان قول القائل: إن الله ورسوله إنما جعل هذا مفطرًا لهذا؛ قولاً بلا علم، وكان قوله: إن الله حرم على الصائم أن يفعل هذا؛ قولاً بأن (هذا حلال، وهذا حرام) بلا علم، وذلك يتضمن القول على الله بما لا يعلم، وهذا لا يجوز.
«الرابع» أن القياس إنما يصح، إذا لم يدل كلام الشارع على علة الحكم، إذا سبرنا أوصاف الأصل، فلم يكن فيها ما يصلح للعلة، إلا الوصف المعين، وحيث أثبتنا علة، فلا بد من السبر، فإذا كان في الأصل وصفان مناسبان، لم يجز أن نقول: الحكم بهذا دون هذا.
ومعلوم أن النص والإجماع أثبتا الفطر بالأكل والشرب والنبي صلى الله عليه وسلم نهى المتوضئ عن المبالغة في الاستنشاق إذا كان صائمًا، وقياسهم على الاستنشاق، أقوى حججهم، وهو قياس ضعيف، وذلك لأن من نشق الماء بمنخريه، ينزل الماء إلى حلقه، وإلى جوفه، فحصل له بذلك ما يحصل للشارب بفمه، ويغذي بدنه من ذلك الماء، ويزول العطش، ويطبخ الطعام في معدته، كما يحصل بشرب الماء، وليس كذلك الكحل، والحقنة، ومداواة الجائفة، والمأمومة، فإن الكحل لا يغذي البتة، ولا يدخل أحد كحلاً إلى جوفه، لا من أنفه، ولا من فمه، وكذلك الحقنة، لا تغذي، بل تستفرغ ما في البدن، كما لو شم شيئًا من المسهلات، أو فزع فزعًا أوجب استطلاق جوفه، وهي لا تصل إلى المعدة (*) ، والدواء الذي يصل إلى المعدة، في مداواة الجائفة، والمأمومة، لا يشبه ما يصل إليها من غذائه، بل ليس فيه تغذية، والله تعالى يقول {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وقال صلى الله عليه وسلم «الصوم جنة» ، وقال «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فضيقوا مجاريه بالجوع والصيام» فالصائم نهي عن الأكل والشرب، لأن ذلك سبب التقوى، فترك الأكل والشرب، الذي يولد الدم الكثير، الذي يجري فيه الشيطان، إنما يتولد من الغذاء، لا عن حقنة، ولا كحل، ولا ما يقطر في الذكر، ولا ما يداوى به المأمومة والجائفة، فإذا كانت هذه المعاني وغيرها، موجودة في الأصل الثابت بالنص والإجماع، فدعواهم أن الشارع علق الحكم
ــ
(*) كلامه رحمه الله على المعروف في عصره، ويوجد الآن حقن أخر، وهو إيصال المواد الغذائية للأمعاء وغيرها، يغذي بها المرضى وغيرهم، فالإعتبار بما كان في عصره، وما سواه يعطي حكمه.

بما ذكروه من الأوصاف، معارض بهذه الأوصاف، والمعارضة تبطل كل نوع من الأقيسة، إن لم يتبين أن الوصف الذي ادعوه، هو العلة دون هذا.
«الخامس» أنه ثبت بالنص والإجماع منع الصائم من الأكل والشرب، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» ولا ريب أن الدم يتولد من الطعام والشراب، وإذا أكل، أو شرب، اتسعت مجاري الشياطين، وإذا ضاقت، انبعثت القلوب إلى فعل الخيرات، وترك المنكرات، وصفدت الشياطين، فهذه المناسبة، ظاهرة في منع الصائم من الأكل والشرب، والحكم ثابت على وفقه، وكلام الشارع قد دل على اعتبار هذا الوصف، وتأثيره، وهذا المنع منتف في الحقنة، والكحل، ونحو ذلك، فإن قيل: بل الكحل قد ينزل إلى الجوف، ويستحيل دما. قيل: هذا كما يقال في البخار، الذي يصعد من الأنف إلى الدماغ، فيستحيل دمًا، وكالدهن الذي يشربه الجسم، والممنوع منه إنما هو ما يصل إلى المعدة، فيستحيل دمًا، ويتوزع على البدن، ونجعل هذا وجهًا سادسًا فنقيس الكحل والحقنة، ونحو ذلك، على البخور، والدهن، ونحو ذلك، لجامع ما يشتركان فيه، من أن ذلك ليس مما يتغذى به البدن، ويستحيل في المعدة دمًا، وهذا الوصف هو الذي أوجب أن لا تكون هذه الأمور مفطرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>