للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإن ضاق ماله حج به من حيث بلغ (١) وإن مات في الطريق حج عنه من حيث مات (٢) .


(١) أي ومن وجب عليه نسك، ومات قبله، وضاق ماله عن أدائه من بلده، استنيب به من حيث بلغ، أو لزمه دين، أخذ لحج حصته، وحج عنه من حيث بلغ، لحديث «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» .
(٢) هو أو نائبه، مسافة، وقولاً، وفعلاً، لأن الاستنابة من حيث وجب القضاء، وإن صُدَّ فعل ما بقي، وإن وصى بنفل وأطلق، جاز من ميقاته، ما لم تمنع قرينة، قال الشيخ وغيره: الحج يقع عن المحجوج عنه، كأنه فعله بنفسه، سواء كان من جهة المنوب مال أو لم يكن، ويكون الفاعل بمنزلة الوكيل والنائب، لأنه ينوي الإحرام عنه، ويلبي عنه، ويتعين النائب بتعيين وصي، ويكفيه أن ينوي النسك عنه، ولا تعتبر تسميته لفظًا، وإن جهل اسمه، أو نسيه، لبى عمن سلم إليه المال ليحج به عنه، وقيل: إذا لم يعلم النائب حتى أحرم، توجه وقوع الحج من مستنيبه، ولزوم نفقته عليه، وثبوت ثوابه له، لأنه إن فات إجزاء ذلك عنه لم يفت وقوعها عنه نفلاً، لوقوعها عن إذن.
قالوا: ويستحب أن يحج عن أبويه، إن كانا ميتين، أو عاجزين أن يحجا، ويقدم أمه، لأنها أحق بالبر، ويقدم واجب أبيه لإبراء ذمته، وعن زيد بن أرقم مرفوعًا «إذا حج الرجل عن والديه يقبل عنه وعنهما، واستبشرت أرواحهما في السماء، وكتب عند الله برًا» ، وعن جابر نحوه، رواهما الدارقطني وغيره. وقال ابن عطوة: وحجه عن نفسه يضاعف، وعن غيره ثواب بلا مضاعفة، فهو عن نفسه أفضل، ولا نزاع في وصول ثوابه إليهم، ولكن كما قال ابن القيم وغيره: تخصيص صاحب الطاعة نفسه أفضل، ويدعو كما ورد في الكتاب والسنة، وأجمعت عليه الأمة.
وللترمذي وصححه، عن ابن مسعود مرفوعًا «تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد، والذهب والفضة، وليس للحج المبرور ثواب إلا الجنة» ، وفي الصحيح عن عائشة قالت: نرى الجهاد أفضل العمل. يعني لما سمعت من فضائله، في الكتاب والسنة، فقالت: أفلا نجاهد؟ قال «لكن أفضل الجهاد حج مبرور» وهذا الخبر حجة لمن فضل نفل الحج، على نفل الصدقة، وجاء: «إن النفقة فيه، كالنفقة في سبيل الله، بسبعمائة ضعف» والمبرور الذي لا يخالطه شيء من الإثم، قد وفيت أحكامه، فوقع على الوجه الأكمل، وقيل المتقبل وإن الحج يهدم ما كان قبله، ومن وقف في تلك المشاعر العظام، وتجلت له الأنوار الإلهية، علم فضله.
قال الشيخ: والحج على الوجه المشروع، أفضل من الصدقة التي ليست واجبة، لأنه عبادة بدنية مالية، لكن بشرط أن يقيم الواجب في الطريق، ويترك المحرمات، ويصلي الصلوات الخمس، ويصدق الحديث، ويؤدي الأمانة، ولا يتعدى على أحد.
تتمة
إذا لم يكن حجه فرضًا، ولم يعزم على الحج أو العمرة، وكذا غيرهما من الأمور المباحة، فينبغي أن يستشير من يثق به، ويستخير الله تعالى – فيصلي ركعتين، يدعو في آخرها أو بعد الفراغ، قبل العزم على الفعل – هل يحج هذا العام أو غيره إن كان نفلاً، أو لا يحج، قال الشيخ: وقبل السلام أفضل، وإذا استقر عزمه فليبادر فعل كل خير، ويبدأ بالتوبة من جميع المعاصي، والمكروهات، ويخرج من المظالم، بردها لأربابها، وكذا الودائع والعواري والديون، ويستحل من له عليه ظلامة، ومن بينه وبينه معاملة في شيء، أو مصاحبة، ويستمهل من لا يستطيع الخروج من عهدته، ويكتب وصيته، ويوكل من يقضي ما لم يتمكن من قضائه، ويترك لمن تلزمه نفقته نفقتهم، إلى حين رجوعه، ويرضي والديه، ومن يتوجه عليه بره وطاعته، ويحرص أن تكون نفقته حلالاً، ويستكثر من الزاد والنفقة، قال بعضهم في قوله {وَتَزَوَّدُوا} أي اتخذوا الزاد في الحج، ليغنيكم عن الحاجة إلى أزواد الناس {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} أي التعفف عن أزواد الناس، وليكن زاده طيبًا لقوله {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} والمراد الجيد، ويكون طيب النفس بما ينفقه، ليكون أقرب إلى قبوله.
قال الشيخ: ومن جرد مع الحاج من الجند المقطعين وجمع له ما يعينه على كلفة الطريق، أبيح له أخذه، ولا ينقص أجره، وله أجر الحاج بلا خلاف.
ويجتهد في رفيق صالح، يكون عونًا له على نصبه، وأداء نسكه، يهديه إذا ضل، ويذكره إذا نسي. وإن تيسر أن يكون الرفيق عالمًا، فليتمسك بغرزه، ليكون سببًا في بلوغه رشده، ويجب تصحيح النية، فيريد وجه الله، ويخرج يوم الخميس أو الاثنين أول النهار، لفعله عليه الصلاة والسلام، ويصلي في منزله ركعتين، ثم يقول: اللهم هذا ديني، وأهلي ومالي، وديعة عندك، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل والمال والولد، اللهم اصحبنا في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى.
ويودع أهله وجيرانه، وسائر أحبابه، ويودعونه، ويقول كل منهم: أستودعك الله الذي لا يضيع ودائعه. أو: استودع الله دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك، زودك الله التقوى، وغفر ذنبك، ويسر لك الخير، حيثما كنت، للأخبار، ويدعو له من يودعه، ويطلب منه الدعاء، فيقول: لا تنسنا يا أخي من دعائك. أو: أشركنا في دعائك. ويتصدق بشيء عند خروجه، ويدعو بما صح عن أم سلمة «بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أظلم أو أُظلم، أو أجهل، أو يجهل علي» وعن أنس «بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله» وإذا أراد ركوب دابته، قال «بسم الله الرحمن الرحيم» وإذا استوى عليها قال «سبحان الذي سخر لنا هذا، وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون» ويرافق جماعة، لما في الوحدة من الوحشة، ولما ورد من النهي عنها.
وقد اشتهر عن خلائق من الصالحين الوحدة في السفر. قال النووي: إنما تكره لمن استوحش، فيخاف عليه من الإنفراد والضرر، بسبب الشياطين وغيرهم، أما الصالحون فإنهم أنسوا بالله، واستوحشوا من الناس، في كثير من أوقاتهم، فلا ضرر عليهم في الوحدة، بل مصلحتهم وراحتهم فيها، ولا يستصحب كلبًا، ولا يعلق على دابته جرسًا، ولا قلادة من وتر ونحوها، للأخبار. ولا يحمل دابته فوق طاقتها، ويريحها بالنزول عنها غدوة، وعشية، ولا يمكث على ظهرها، واقفة من غير حاجة، للأخبار، ويجوز الإرداف إذا كانت تطيق، ويجوز الاعتقاب عليها، لفعله صلى الله عليه وسلم، ويراعي مصلحة الدابة في المرعى، والسرعة والتأني، بحسب الأرفق بها، للخبر، وفيه «وإذا عرستم فاجتنبوا الطريق، فإنها طريق للدواب، ومأوى لهوام الليل» ويستحب السير في آخر الليل. فإن الأرض تطوى فيه، ولا ينبغي أوله، لانتشار الشياطين، إذا غابت الشمس، حتى تذهب فحمة العشاء، ولا يكره أوله، ويسن مساعدة الرفيق، وإعانته وخدمته، ومن معه فضل ظهر، عاد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل زاد، عاد به على من لا زاد معه، ويستعمل الرفق، وحسن الخلق، ويجتنب المخاصمة، والمخاشنة، ومزاحمة الناس في الطرق، وموارد الماء، إذا أمكنه ذلك. ويصون لسانه من الشتم، والغيبة، ولعن الدواب وغيرها، وجميع الألفاظ القبيحة، ويرفق بالسائل والضعيف ولا ينهر أحدًا منهم، ولا يوبخه على خروجه بلا زاد وراحلة، بل يواسيه بما تيسر،
فإن لم يفعل رده ردًا جميلاً. قال النووي وغيره: ودلائل هذا، في الكتاب والسنة، وأجمع المسلمون عليها.
ويستحب أن يكبر إذا صعد الثنايا ونحوها، ويسبح إذا هبط الأودية ونحوها، لخبر: إذا صعدنا كبرنا، وإذا نزلنا سبحنا. وإذا أشرف على قرية يريد دخولها، قال «اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها» ، وفي لفظ: «اللهم رب السموات السبع، وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين، أسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها، وشر أهلها وشر ما فيها» . ويستحب أن يدعو في سفره في كثير من الأوقات، فإن دعوته مجابة.
وينبغي الحداء والزجر في السير، وتنشيط الدواب والنفوس، وترويحها وتيسير السير، للأخبار. وإذا جنه الليل قال «يا أرض ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك وشر ما يدب عليك» الخ. وإذا نزل منزلاً قال: «أعوذ بكلمات الله التامة، من شر ما خلق» للخبر، وفيه «لم يضره شيء حتى يرحل من منزله» وينبغي للرفقة الاجتماع في المنزل، ويكره تفرقهم لغير حاجة، لقوله «إن تفرقكم في هذه الشعاب إنما ذلكم من الشيطان» ، رواه أبو داود. والسنة للمسافر – إذا قضى حاجته – أن يعجل الرحلة إلى أهله، لحديث: «السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه، فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره، فليعجل إلى أهله» متفق عليه. ويقول في رجوعه ما ورد في الصحيحين: أنه إذا قفل من الحج أو العمرة، كلما أوفى على ثنية أوفَدْ فَد كبر ثلاثًا، ثم قال «لا إله إلا الله، وحده لا شريك له» إلى آخره، ويأتي.

<<  <  ج: ص:  >  >>