إن هذه الأمور الغيبية إنما أمرنا بالإيمان بها كما وردت، لا نتكلف أن نصورها بأكثر مما عبر عنها الله في كتابه أو رسوله في سنته، وقد جعل الله من أول فضائل المؤمنين أنهم (الذين يؤمنون بالغيب) فيصدقون رسولهم فيما أخبرهم، مما غاب عن حسهم وقصرت عقولهم عن إدراكه، وليس بضارهم شيئًا أن يؤمنوا به، بل في الإيمان به كل الخير: ثقة النفس بالله، والاعتراف بقدرته وضعف الإنسان فيتبع أوامر ربه كلها، فيما فهم وما لم يفهم، وفيما أحب وفيما كره {الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [سورة البقرة آية ١ - ٣].
والمثل على ذلك حاضرة. يأمر أحدنا طفله بأمر كله لطفله نفع ورضى، والطفل يعجب لأبيه، ويرى أمره أحيانا مخالفا عقله الصغير, وليس بمستطيع أن يدخله في نطاق تصوره، ومع ذلك يأبى أبوه إلا أن يلزمه الطاعة ولعله في بعض الأمور لو خالف أبا كان فيها هلاكه.
ويرى الرجل العاقل أشياء من عمل من هم أكبر منه عقلا وعلما، ينكرها ويجزم بأنها خطأ لا صواب فيه، ثم إذا أمكن لغيره أن يفهمه علتها أو ملابساتها علم أنه أنكر صوابا. وأن العلة إنما كانت في قصور فهمه.
وإنا لنقرأ كثيرا عن أبحاث الراصدين من علماء الفلك فنجد فيها أخبارا عما ظهر لهم من الرصد والحساب من أبعاد الكواكب من الأرض التي نعيش عليها, لا يمكن للرجل العادى الذي لم يدرس هذه العلوم أن يتصورها (بعض الكواكب يبعد عن الأرض ٢٢٠ ألف سنة ضوئية، أي باعتبار أن الضوء يسير في الفضاء بسرعة ١٨٦ ألف ميل في الثانية الواحدة) وإنما يصدّق بها ثقة بالعلماء الذين بحثوا ونقبوا، وقد يكون الخطأ في حسابهم جللا, ولعل الغلطة في رقم من أرقام حسابهم تنتج فروقا بما لا يتصور عده من ملايين الأميال.
هذا كله في عقل إنسانى أمام عقل إنسانى، فماذا نرى في عقل إنسانى ضعيف أمام قدرة الخالق وعلمه الذي