وبسقوط الدولة الأموية فقدت الشام مقامها الممتاز، ولم تعد مركز إمبراطورية متراهية الأطراف، وألفت نفسها قد نزلت إلى مرتبة الولاية فحسب، وأصبح ينظر اليها بعين الحسد لصلتها بنظام الحكم القديم، ونقلت قصبة الخلافة عبر الفرات ووجد الشآميون أنفسهم، وهم يناضلون فى ظل سلطان لم تخمد عداوته فى قلوبهم قط، قد جردوا باطراد من كل ما كان لهم من نصيب فى شئون الحكم، ذلك أنهم من ثم قد رزحوا تحت سلطان الفاطميين ومن تلاهم من الحكام؛ وإنما كان الخلفاء العباسيون يتدخلون فى أمور الشام لإشعارها بضآلة مركزها متوسلين إلى ذلك بفرض الضرائب الفادحة عليها. وضاق نصارى لبنان بمغالاة عمال الخلافة فى اغتصاب أموالهم فحاولوا ما بين سنتى ٧٥٩ - ٧٦٩٠ م أن يستردوا حريتهم فخاب مسعاهم. وقد اجتاز الخلفاء المنصور والمهدى وهارون والمأمون الشام فى حجهم أو حربهم مع الروم. وأصبح الموقف أشد من أن يحتمل إبان الفتن التى سبقت اعتلاء المأمون عرش الخلافة (٨١٣ - ٨٣٣ م) فهاجر كثير منهم إلى قبرص.
ولم يتعظ القيسية واليمينية بالازراء التى نزلت بموطنهم الشام وما حل بهم من فقدان استقلالهم الذاتى، فلم ينسوا خلافاتهم المؤسفة التى انتهت بإضعاف الشآميين وأدت إلى خيبة مساعيهم فى رفع نير العباسيين عن كاهلهم. وقد رفع على بن عبد اللَّه السفيانى سليل معاوية العلم الأبيض الذى كان قد أصبح رمزا لحرية الشام، على أنه اضطر إلى ضم القيسية إلى صفوفه (٨٠٩ - ٨١٣ م) اكتسابا لعون بنى كلب. ونشبت فتنة أخرى باءت كسابقتها بالخيبة ذلك أن عربيا يدعى أبا حرب اليمنى النسب قام وادعى أنه السفيانى على أن استخفاف القيسية بالأمر للمرة الثانية أدى إلى هزيمة فى عهد الخليفة المعتصم (٨٣٨ - ٨٤٧). واستسلم الخليفة المتوكل (٨٤٧ - ٨٦٦ م) المتقلب لهواه ففكر فى نقل قصبة الخلافة والعيش فى دمشق.