عبارة "أصحاب الخصومات"، معلنًا أنه لا "يتورط" معهم.
وكان حتما أن تلقى هذه الحالة من الأمور بظلال الشك على القيمة الحقيقية لكل فكرة، ولكل مفهوم، وخصوصًا فى وسط كانت العقلانية وتأثير اليونان هما القوى المسيطرة فيه. وكان لهذه الحقيقة تأثيرها القوى على الآراء وعلى الأدب فى الشكل وفى المضمون، بين العقلانيين فى معظم الأحوال وعند الجاحظ على وجه الخصوص.
[كتابات الجاحظ]
ويقدم لنا الجاحظ -فى كتاباته- معرفته كخبير بهذا الوسط، بكل جوانبه واتجاهاته المتناقضة -وتصبح خصائص الوسط وسماته مرتبطة بأفكار مقتبسة من الفلسفة اليونانية؛ وهذه الأفكار هى التى أدت بالجاحظ إلى المفهوم الذى جعله قادرًا على أن يرد على كل من المسلمين الذين يؤمنون بالثنائية (خضوع الكون لمبدأين متعارضين هما الخير والشر) والمسلمين الذين يؤمنون بالجبرية (أفعال المرء لا سلطة له عليها. أو الإيمان بالقضاء والقدر). . وقد أصبح هذا المفهوم واحدا من أسس وأصول مذهبه الذى يقول بنسبية الخير والشر فى هذا العالم، وضرورة تعايشهما من أَجل "الأصلح" للخلق وعلى الأخص الحياة العقلانية.
وقد دفعته الرغبة فى أن يصور هذا المفهوم النسبى للخير والشر ويجعله فى متناول إدراك الجميع إلى أن يضع -على أساس من المناظرات الشائعة فى عصره- نصا أدبيا طويلا إلى حد ما يناقش فيه محاسن ومساوئ الديك والكلب (محاسن الديك ومساوئه - ومنافع الكلب ومضاره) ويقدم هذا النص للقارئ على شكل "جدل" بين اثنين من كبار المعتزلة؛ أحدهما (وهو النظّام) يؤيد الديك ويدافع عنه (صاحب الديك). أما الآخر (وهو معبد) فيؤيد الكلب ويدافع عنه (صاحب الكلب). ويوجه إليهما النقد بمرارة شخص يطلق عليه الجاحظ اسم "عائب" الذى يستهجن أيضًا الديك والكلب ويعدّد نقائصهما ويسردها.