هذه الدراسة لأساليب الفكر والمحاجاة المستخدمة فى "علم الكلام" إنما تؤكد على أن النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة كان جزءا من عملية متواصلة. وهناك انشقاق فيما يتعلق بالمبادئ الرئيسية المعلنة؛ لكن الأمر ليس كذلك فيما يتعلق بأنماط الحجج أو طريقة الاستدلال المستخدمة، ولا فيما يتعلق بالخطوط العامة أو مخططات الأطروحات. ومن وجهة النظر هذه فإن الكلام -باعتباره مبحثا راسخا- مدين للمعتزلة بالكثير؛ فأصولهم الخمسة تواصل (مع بعض المتغيرات) السيادة على الأمر برمته، لهذا نجدها فى "اللمع" للأشعرى وأيضا فى "التمهيد" للباقلانى.
ومع ذلك فابتداء من عصر الديوانى فصاعدا (وبصفة خاصة ابتداء من الرازى) تظهر ثلاثة مستجدات: -
(١) الملاحظات الاستهلالية على طبيعة الاستدلال (الديوانى فى الإرشاد)، وعلى طبيعة الكلام (الغزالى فى "الاقتصاد")، وأخيرا على المبادئ العامة للمنطق والفلسفة الطبيعية والانطولوجيا (الرازى، الإيجى، الجرجانى) تصبح ذات أهمية متزايدة على الدوام إلى أن تبرز ضمن الأطروحات الفعلية ذاتها.
(٢) فى الموضوعات الأكثر اختصاصا بالتوحيد -على وجه التحديد- ينشأ تمييز بين الفصول المعلقة بالإلهيات من جهة وبين الفصول المتعلقة بالسمعيات؛ أى الفصول التقليدية التى تعتمد المُحاجاة فيهما على البيانات الموجبة. وتجمع الفصول الفلسفية والإلهيات معا تحت مصطلح "العقليات"؛ حيث إن السمعيات تتناول النبوة والمسائل المتعلقة بالآخرة والأحكام والأسماء (مسألة الايمان) والأمر بالمعروف. وبعض المؤلفين كالديوانى والغزالى يجعلون النبوة كرابطة بين الإلهيات والسمعيات.
(٣) وأخيرا جرى التمييز -الأمر الذى أعاد محمد عبده أخذه فى الاعتبار- بين ما هو ضرورى فى اللَّه سبحانه وتعالى (كالوجود والصفات) وما هو ممكن فى اللَّه (كالقابلية للرؤية وخلق أفعال البشر والتسويغ والطرد من الرحمة) وما هو مستحيل فى اللَّه سبحانه وتعالى وله (نقيض الصفات)،