ولم يبق أثر من مدينة المنصور، أي مدينة السلام أو الزوراء بما فيها من أسوار وأبواب، وموقعها الخاص الفريد الذي نعرف أدق تفاصيله هن أوصاف مؤلفى العرب كاليعقوبى والخطيب البغدادي يقتضي منا أن نسهب في الحديث عنه، ولكن يجدر بنا أن نمر عليه مر الكرام ونحيل القارئ إلى الفصول الأولى من كتاب له سترانج ولسنا ندهش من اختفاء هذه المدينة اختفاء تامًّا لأن العباسيين نقلوا دار المملكة إلى الجانب الشرقي عندما رجعوا من سامراء. ولم يعنوا بالمحافظة على الأسوار والعمائر العامة، اللهم إلا إذا استثنينا المسجد الجامع. ولم يحفل أحد بإعادة بناء ما خربه الفيضان والحريق والحصار والفتن، وفقدت المدينة جزءًا من سكانها. وبقى الجزء المجاور لباب البصرة من بغداد مدة أطول من غيره، ولذلك فإن الناس لم يعودوا يتحدثون في القرون الأخيرة قبل عام ٦٥٦ هـ عن مدينة المنصور، بل اقتصر حديثهم على حي باب البصرة.
وكانت أجزاء المدينة المختلفة التي تمتد غربًا وجنوبًا حول مدينة المنصور تكوِّن المركز التجارى والصناعى في صدر العهد العباسى، لأن هذا الموقع كان ملائما. ففيه تكثر القنوات التي كانت -شأن الصراة ونهر عيسى- وسيلة هن الوسائل المباشرة للاتصال بالفرات، فاجتذبت إليها سكانًا يتميزون بالنشاط وحب العمل. وفي هذا الموضع وجدت ضاحية الكرخ التي كثيرًا ما ذكرت في تاريخ بغداد والتي كان بين أهلها من الشيعة وبين جيرانهم من الأحياء الأخرى معارك دموية، وبخاصة من يقطنون باب البصرة. وبقى هذا الجزء من المدينة إلى يومنا هذا. ويسمى الترك الجانب الغربي من بغداد باسم "قارشى ياقه" ومعناه بالعربية الجانب الآخر، وفي لهجة العراق "هذاك الجانب"[أي ذلك الجانب] والجسور المقامة على القوارب تيسر عبور دجلة في عصرنا هذا كما كان الحال في العصور المتقدمة، ولو أن مواضعها قد تغيرت في كثير من الأحيان.