اضطر عز الدولة متأثرًا بالضغط السياسي الذي أثقل به كاهله المعتضد ابن عباد أن ينزل عن إمارته لملك إشبيلية فضمها هذا الملك إلى أملاكه، ولا شك أن أبا عبيد، الذي لانعرف تاريخ مولده، كان وقتذاك في الثلاثين على الأقل. وقد صحب أباه إلى قرطبة وكان قد اختارها مقاما جديدًا له تحت حماية أميرها أبي الوليد محمد بن جهور يسخو في بسطها أحيانًا ويشح أحيانًا وهذه هي -على كل حال- الوقائع الخاصة التي أوردها ابن حيان (المتين في ابن بسام: الذخيرة، جـ ٢، ونقلها ابن عذارى: البيان المغرب، جـ ٣ ص ٢٤٠ - ٢٤٢، Abbad: Dozy جـ ١، ص ٢٥٢ - ٢٥٣) ولا وجه للشك فيها، ولكن ثمة مصدرًا آخر (ذيل البيان، جـ ٣، ص ٢٢٩) يقرر أن أبا عبيد وأباه الذي توفي سنة ٤٥٦ هـ (١٠٦٤ م) انسحبا إلى إشبيلية، وهو أمر غير مستبعد. وأيا كان الأمر فإن أبا عبيد لم يلبث أن اشتهر في عالم الكتابة. كان تلميذًا للإخبارى أبي مروان بن حيان وغيره من الأئمة ذوي الصيت، وكان يتنقل في دوائر بلاط أمراء الأقاليم، وخاصة بلاط بنى صُمادح في الممَريَّة. ولما شهد من بعد تدخَل المرابطَين العسكرى والسياسى في الأندلس ودوال مُلك ملوك الطوائف دواليك، كان قد كتب معظم كتبه العديدة التي كان يجهز لها بجمع ما لا يحصى من المذكرات. واستقر البكرى في قرطبة التي كان قد ردها السلطان يوسف بن تاشفين إلى مكانتها قصية للأندلس، وفيها توفى البكرى في سن وافية في شهر شوال سنة ٤٨٧ هـ (أكتوبر- نوفمبر سنة ١٠٩٤ م؛ سنة ٤٩٦ هـ في قول الضَبِّى الذي يلقبه بلقب "ذي الوزارتين").
وإذا حكمنا على أبي عبيد البكرى بتنوع مصنفاته ظهر لنا في صورة "المشارك" الأمثل، فقد حصل معرفة واسعة جدًّا بمختلف فروع العلم. وكان أساسًا جغرافيًا، ولكنه كان في الوقت نفسه أيضًا متكلمًا، وفقيهًا لغويًّا، وعالمًا في النبات، بل لقد كان يمارس فن الشعر، ذلك أن من ترجموا له نقلوا له بعض الأبيات في الخمر: وكان قد طار