يفعل حتَّى قلو فهو أفضل ممن أظهر، وكذلك كل أمر فيه إعزاز للدين، فالإقدام عليه حتَّى يقتل أفضل من الأخذ بالرخصة. وقال أحمد بن حنبل وقد قيل له: أن عرضت على السيف تجيب؟ قال: لا، وقال: إذا أجاب العالم تقية والجاهل يجهل فمتى يتبين الحق؟ والذي نقل إلينا خلفًا عن سلف أن الصحابة وتابعيهم وتابعى تابعيهم بذلوا أنفسهم في ذات الله، وأنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا سطوة جبار ظالم، وقال الرازي: إنما تجوز التقية فيما يتعلق بإظهار الحق والدين، وأما ما يرجع ضرره إلى الغير - كالقتل والزنا وغصب الأموال والشهادة بالزور وقذف المحصنات واطلاع الكفار على عورات المسلمين - فغير جائز البتة. فالظاهر من أقوال العلماء التي سقنا وغيرها مما امتلأت به الدواوين أن التقية إنما تجوز عند الضرورة القصوى للمستضعف الَّذي يخشى على نفسه الفتنة، أن يجيب مكرهيه إلى ظاهر اللفظ مضطرًا على أن يطمئن قلبه بالايمان والحق، ينظر في ذلك إلى حفظ حياته ومصلحة المسلمين، وعلى أن لا يكون ممن يقتدى به، فيخشى أن يخفى الحق على الجاهلين، وأن يضعف إيمانهم ويحجموا عن نصر حقهم، اقتداء بمن أجاب عند الإكراه تقية، وهم غافلون. وهذا هو الَّذي أضعف المسلمين في القرون الأخيرة: أن أحجم علماؤهم وزعماؤهم وقادتهم عن الضرب على أيدى الظالمين وعن كلمة الحق في مواطن الصدق، فتهافت الناس وضعفت قلوبهم، وملئوا رعبًا من عدوهم، فكانوا لاغناء لهم، وكانوا غثاء كغثاء السيل. ولم يكن كذلك سلفهم الصالح كانوا يتعرضون لصنوف البلاء، وأشد الإيذاء، في سبيل الله. ثم لا يجبنون ولاينكصون، وسيرة رسول الله وأصحابه، ثم تاريخ الإسلام أكبر شاهد لما نقول، أما ما نسب إلى الشيعة الإمامية، من الغلو في التقية، فما نظن كله صحيحًا، بل لعل اأثره مما عرى المسلمين من الضعف في القرون الأخيرة، وبعضه مما لقى متقدموهم من شدائد قد يضعف عن حملها بعضهم. ومن أقدم أقوال أئمتهم في ذلك قول الشريف الرضى، الإمام العالم الشاعر البليغ، (المتوفى سنة ٤٠٦) في كتاب