للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقد تزعم كل من الجبائى وابنه معتزلة البصرة في عهده، وعمل على نشر مذهب أبي هاشم أبو القاسم الصاحب ابن عباد أحد المتشيعين له والمتوفى عام ٣٨٥ هـ. ولعل من الطريف أن نذكر أنه كان لأبي هاشم هذا ولد عامي لا يعرف شيئًا، فدخل يوما على الصاحب فأكرمه رعاية لحق والده ولما ظنه فيه من العلم، ثم سأله عن مسألة فقال: لا أعرف ولا أعرف فصف العلم. فعجب الصاحب من اختلاف حظ الأب والابن من المعرفة، وقال: صدقت يا ولدى، إلا أن أبالىُ تقدم بالنصف الآخر (١).

والباحث لآراء الفرق الكلامية في مظانها يتبين له أن الجبائى وابنه اتفقا مع المعتزلة في الأصول التي قالوا بها، وانفردا عنهم بآراء خاصة بهما، كما اختلف كل منهما عن الآخر في بعض ما ذهب إليه في مسائل غير قليلة، ولكل وجهة هو موليها.

فمن الآراء التي توافقا فيها أن السبيل لإفناء العالم حين يريد الله أن يخلق "فناء" لا في محل، فيفنى به جميع الأجسام، ومن ثم لا يصح في قدرة الله تعالى أن يفنى البعض دون البعض وان كان لم يخلق الجميع مرة واحدة! وبعبارة أخرى، إن في قدرة الله أن يفنى العالم متى شاء مرة واحدة، وليس في قدرته أن يفنى بعضه ويبقى على سائره (٢).

واتفقا كذلك على أن الله ما دام لم يخلق الناس عبثًا ولم يتركهم سدى، بل طلب منهم فعل الحسن والواجب واجتناب الإثم والقبيح، مع ما ركبه في خلقتهم وركزه في طبائعهم من الشهوات والميل لإرضائها ولو بفعل القبيح، فيجب إذًا عليه تعالى إكمال عقولهم ونصب الأدلة لهم وأن يمدهم بما يستجيبون به لتكاليفه (٣). ونعتقد أن الده تفضل وفعل لخلقه كل هذا؛ فقد هدانا للحق بما جعل فينا من عقل، وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس عليه بعد هذا وذاك حجة،


(١) ابن خلكان ج ١ ص ٤١٤.
(٢) الملل والنحل للشهرستاني، طبع الخانجي، ج ١، ص ٩٨. والفرق بين الفرق ص ١٦٨ - ١٦٩.
(٣) الملل والنحل ج ١ ص ١٠٦ - ١٠٧.