أبو العلاء يبلغ الرابعة من عمره حتى أصابه الجدرى فأفقده عينيه أو كاد, ويحق لنا أن ندهش من حافظته العجيبة التى مكنته، رغم ذلك النقص الخلقى، من أن يظهر فى آثاره هذا التنوع وتلك الدراية الواسعة بالعلوم التى قلما فاقه فيها أحد. وقضى شبابه فى عصر مضطرب. فقد كان الحمدانيون يحكمون شمالى الشام فى ذلك العهد حكما مزعزعاً لوقوعهم بين الفاطميين الذين كانوا يتقدمون من الجنوب، وبين الروم الذين يتقدمون من الشمال. ومع ذلك لم تكن هذه الظروف غير ملائمة على الإطلاق. للأدب. ومع أن عصر سيف الدولة الزاهر كان قد انقضى، فإن النهضة التى بدأها ذلك الأمير لم تكن قد فقدت قوتها بعد. وكانت شهرة الشام الأدبية عظيمة فى ذلك الوقت، كما نتبين من الثعالبى الذى عاصر أبا العلاء (انظر مقدمة مركوليوث، "رسائل أبى العلاء" ص ١٦). ودرس أبو العلاء فى حلب وطرابلس واْنطاكية على تلاميذ النحوى ابن خالُويه وغيرهم من علماء الشام.
ويظهر أنه كان يتجه بدراساته إلى احتراف المديح كالمتنبى مثلا، وقد وصلت إلينا بعض مدائحه فى سيف الدولة الحمدانى، وعلى أيه حال فإن المعرى سرعان ما ترك حرفة مرجوة النجاح لأنها كانت خليقة بأن تعرَض كبرياءه وطبيعته الحساسة للمهانة التى لا تحتمل، فقد قال فى مقدمة سقط الزند:"لم أطرق مسامع الرؤساء بالنشيد ولا مدحت طلبا للثواب".
وكان يعيش عند عودته إلى المعرّة من معاش سنوى قدره ثلاثون ديناراً تدفع له من مال محبوس، ومن المحتمل أنه كان يعيش كذلك من الأجور التى كان يدفعها بعض الطلاب الذين اجتذبتهم شهرته الفائقة، ويدل على ما كان له فى مسقط رأسه من مكانة انتخاب مواطنيه له للرد على رسالة وجهها إليهم السياسى والمؤلف المعروف أبو القاسم بن على المغربى. وظل أبو العلاء فى المعرة حتى عام ٤٠١ هـ (١٠١٠ م) حتى استقر رأيه، لأسباب مجهولة، على أن يعيش فى